الأحد، 12 أكتوبر 2014

تعفن الإسلام، اعادة الإحياء (أ)


"لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ.... وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" (آل عمران، 181)
نزلت هذه الآية تنديدًا بفهم اليهود "الحرفي" للقول القرآني:                                                         
                                                  "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا" (البقرة، 245)


لم يعد هناك مجالًا للجدال حول تعفن الديانة الإسلامية(1)، إثر ركودها وجمودها على صورة الماضي وشبهه، و إثر اصرار المتحدثين باسمها على صب الحاضر في سبيكة الماضي، مظهريًا وقشريا فقط، دون حتى التعمق إلى جوهر الماضي وفحواه، بل بالوقوف عند سمته، لغته وازياءه، مسمياته وتشريعاته، الأمر الذي-إن استمر-سيكتب بخطوط عريضة كلمة النهاية في سيناريو الاسلام، وربما الايمان عموما، ذلك اننا نُقر بأن رُكنا قيمًا في منظومة الايمان التاريخية والعالمية هو دين الاسلام، وبفقدانه تتفكك بقية الاركان الإيمانية، سواء في ذلك الاديان الاخرى، أو فكرة انتشار الايمان في حد ذاتها. لكن الامل يحذونا تجاه اعادة احياء الاسلام من جديد، حتى يرتد إلى حالته الجوهرية الأولى، التي يتغنى بروعتها الاصوليين ودعاة التجمد، دون إدراك حقيقي بمغزاها. ذلك المغزى الذي هو غاية سعينا في عملية اعادة الإحياء، العملية التي يُرجى من جراءها ان يستعيد الدين مكانته الأصيلة ومكانه الاصلي. والظن يغلبنا بان هذا هو الطريق الاسرع على الاطلاق، تجاه تقدمية المسلمين-التي استعصى تحقيقها رغم كفاح استمر عدة قرون-، نظرًا لأن الاديان-عموما-تمتلك كما هائلًا وعريقًا من الوقود الشعوري لدى شعوبها، هذا بالإضافة لقيامها بدور المخزون الثقافي\الادراكي لمعظم الافراد في المجتمعات المتدينة. فلا حرج في الادعاء القائل بان مشاريع النهضة في هذه المجتمعات لا بُد ان تستند إلى الدين كمولد للطاقة المستهلكة في عملية "النهوض" وكمفتاحًا لحل الغاز الادراك والاستيعاب المجتمعية. الخلاف الجذري هنا ينحسر حول مادة الدين، خصوصا ان "الخلط" بين الدين والتدين (الفكر الديني) يُعد سمة اساسية من سمات المجتمعات المسلمة.


يستمد التدين (الفهم الديني) من الدين (النصوص، والشعور الجماعي) مشروعيته في صورة تدعيمات ثلاث اساسية: التدعيم الروحاني (علاقة الفرد باللاهوت) والتدعيم الاخلاقي (علاقة الفرد بالأفراد) والتدعيم التشريعي (علاقة المجتمع بالفرد). تسود على ساحات التدين المعاصرة-بل والتاريخية-منهجيات اصولية تقوم بإنشاء تصور للدين على انه وحده شامله. تدعي كل من الجماعات الاصولية-مثل السنة والشيعة، الارثودوكس والكاثوليك، السلفيين والاشاعرة، الجهاديين والوسطيين-انها هي المُمثل الوحيد لهذه الوحدة الدينية، مُهدرين بذلك "الواقع النسبي" الذي يتمثل-بأدنى تقدير-في الفارق المهول بين تدين كل جماعة والاخرى. بهذا الخلط بين تدين الجماعة (فهمها للدين) والدين نفسه، تنجرف كل الجماعات الاصولية إلى هوة الحديث باسم الله، ففي عصور الظلام لعبت كنائس الكاثوليك هذا الدور، وفي الزمن الراهن يؤدي الدور ذاته مشايخ الوهابية ووعاظ الازهر ومن على شاكلتهم.

يهُمُنا الآن ان نشير لأن استحواذ التيارات الاصولية على النصيب الاكبر من الاتباع والابواق الاعلامية ومراكز السلطة-التنفيذية والروحية-على مر التاريخ، لا يوفر لها حصانة من النزاع، ولا يُمكن ان يُتصور انه-الاستحواذ-يحسم النزاع حول مادة الدين لصالح الاصولية: ذلك ان ترشيح النفوذ الاصولي للصدارة قد تم بواسطة عوامل سياسية واجتماعية شتى(2)، إذا فالأمر ليس عملية ترشيح هيجلية(3) نستدل منها على رجاحة المُرَشح المُتصدر.

يتصدى الفهم النسبي للدين لفخ احادية الفكر الذي تروج له الأصولية، مثلما يتصدى للجمود الديني الذي يحكم المجتمع بسياج الرجعية والتخلف. فهو يفتح الباب لاستيعاب حقيقة تعدد الافهام لمادة الدين من ناحية، ومن ناحية اخرى تجده يُلزم منتهجيه بتطوير وتجديد الفهم الديني في عمليه دؤوبة مستمرة، نُطلق عليها اسم "اعادة الاحياء". ولعل تصور الغالبية من المسلمين تجاه العبودية يُعد مثالًا "طريفًا" على نسبية التفهم الديني: فالعبودية التي أحلها الاسلام في نصوصه، واباح في جانب مركزي منها مناكحة ملك اليمين، يُبرر الاصوليون-المتطرفون والوسطيون-للإسلام هذا الموقف بحكم انه مهد للقضاء عليها! تجد المشايخ يحللون بعقلانية "غير معتادة"، كيف اضطُر الاسلام إلى اقرار العبودية وكيف ساهم-في الوقت ذاته-في الحد منها حينما أرغم السيد على احترام حقوق عبيده، وهذا الاقرار الاضطراري-برأيهم-يُدلل على واقعية الاسلام، فهو ابن بيئته الذي يأخذ ويرد عليها دون افراط في المثالية بعيدة المنال. والحق يُقال، إن هذا التصور النسبي الذي يُراعي المسافات الاجتماعية بين زمن البعثة النبوية والقرن الواحد والعشرين هو محل دعمنا، فنحن ندعو إلى تعميمه ليشمل كل النصوص الدينية، قرآنا وسنة وفقه وغيره!، وليشمل كل النسبيات المعروفة، من زمان مختلف ومكان مختلف، واسس حضارية مختلفة، بل وإدراك فردي مختلف (يتجلى بوضوح-كما أسلفنا-في تعدد الجماعات الاصولية وتناقض افكارها مع بعضها البعض).

الطريف هنا-في مسألة العبودية-ان الاصوليين يناقضون أنفسهم ويعارضون طرحهم النسبي ذلك(4) حين يقابلون بالرفض اي محاولة لتعميمه، فهم على سبيل المثال يستنكرون-والبعض منهم يُكفر-كل نظريات الحكم المعاصرة-من ديمقراطية وشيوعية وخلافُه-ولا يثبتون سوى الاحتكام للشريعة كالنظرية الوحيدة "الحلال" في ادارة شئون الامة، بالرغم من كون احكام الشريعة مجرد مجموعة من الدوال-العقلية والدينية-في مجريات زمان السلف الصالح. لكنهم يُصرون على صلاحيتها-دون مراجعة-لكل الازمان، كأنما تمت لهم معجزة نسف وسحق كل المسافات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين زماننا وزمان هذا السلف.



هذا التناقض مع الذات-رغم طرافته-يبرهن على ذيوع الفكر التبريري بين اتباع ومشايخ الاسلام الاصولي الذين ربما انسجموا عنوة مع استقباح فكرة العبودية الذي شاع بالعالم كله، فأذاعوا بأبواقهم تبريرات تعتمد بالأساس على تفهم نسبي هم يرفضونه في اي خصوص آخر. ولا عجب، فالركون لمثل هذا التناقض حال طبيعية لمن اعرض عن الوعي والتفكير متخيرًا الوعظ والتبرير.

إن النصوص الاسلامية حين تُحرم الخمر على ثلاث مراحل مراعاة للفجوة بين ارض الواقع(البيئة العربية اوان البعثة) والغرض التنموي(تحريم الخمور)، انها-بهذا التدرج-تمارس دربا من التفهم النسبي الضروري لتجنب الارتطام بارض الواقع، خلاف ما يحدث لكثير من الجماعات الاصولية-ومثلما هو متوقع حدوثه مع الجماعة الاصولية "داعش"-الارتطام الذي تضطر معه الجماعة للتخلي عن جزء كبير من اصوليتها مثل تعرضها لضغوط سياسية او مجتمعية عنيفة، فتضطر الجماعة حينئذ للاعتماد على منهجية براغماتية-نفعية-غير معلنه، تخدم في الخفاء ايديولوجيات ذوي النفوذ السياسي (مثلما الحال مع مؤسسة الازهر) او ايديولوجيات الدعاة والوعاظ (كما تفعل الجماعات السلفية). تأتي بعد ذلك منهجية التبرير كعملية "تلصيم" بين البراغماتية الغير معلنة والأصولية المعلنة-كما ابنا في قضية العبيد-، والنتيجة الحتمية لمجموع السيناريوهات المطروحة هو ان تخرج افكار الجماعة للعالم في صورة مكون حضاري ذو جوهر مختل متناقض اشبه ما يكون بلحم الجنين المتفسخ، لكنه يُحقق رضا وغبون جماهيري واسع، فقط لانه يركن-بغير وجه حق-إلى الشعور الديني الجماعي لدى الجماهير، حين يشوش على المساحة الفاصلة بين الدين وبين انتاجه الفكري او بعبارة اخرى بين اصوليته المدعاة وبين نفعيته المُنتهجة.
___________________________________
(1)ناقشنا في تدوينة تعفن الإسلام مُسببات ومُقتضيات هذا التعفُن بتفصيل حسن.
(2) مثلما سيطر الفكر السلفي على المجتمع الاسلامي بعد وصول الخليفة المتوكل لسدة الحكم، الرجل الذي كان يُعادي رموز الدولة ذوي التوجه الاعتزالي والتوجه الشيعي (راجع ما حكاه عنه السيوطي، في "تاريخ الخلفاء" صفحة 346)، فكان هذا المتوكل سببًا في اضمحلال هذين التوجهين و"ترشيح" الفكر السلفي ترشيحا سياسيًا لا عقلانيا.
(3) جورج فيلهم فريدريش هيجل، رائد الفلسفة المثالية في المانيا، قدم نموذجا معياريًا لتطور الفكر البشري عبر التاريخ.
(4) الراجح عندنا ان هذا الطرح المُتَعقل قد تم تصديرُه للأصوليين من قِبَل التنويريين في مطلع القرن العشرين، حينما انطلقت الشرارة العالمية لمحاربة العبودية، وحينما كانت الغلبة المجتمعية للتنويرين.

 ،

ان الوعي المجتمعي في حاجة مُلحة ومستمرة لان يركن إلى مجموعة من الثوابت والاعراف الاخلاقية\الدينية\الوطنية حتى يتوفر للأفراد معايير رئيسة يؤسسون عليها استحسانهم او استقباحهم للأمور. هذه الثوابت-في الواقع-يتم انتقائها من بين مجموعة المبادئ والقيم المختلفة والمتنوعة، والتي لا يُمكن وصفها بالثبوت، بحُكم ان كُل شيء متغير. لكن المجموعة الجزئية التي تسمى بالثوابت لدى مجتمع ما، تتسم بصفة التوافق والمسايرة لخصائص هذا المجتمع بالذات-كحالته التاريخية مثلا-، فهذه الثوابت تسير بسرعة نسبية ضئيلة بالنسبة للعربة التي يتنقل عليها المجتمع. لذا فهذه المجموعة من القيم، "بالنسبة" لهذا المجتمع ثابته تقريبا. فمن ثم، يُمكن الجزم بان التعامل مع ثوابت مجتمع ما على انها مُطلقة وأنها ثابته في ذاتها، يُعد من باب التطاول على القوانين الحاكمة للكون، التي تُفيد بديمومة الحركة واستحالة السكون. قد يبدو هذا الادعاء كأنما هو دعوة للتخلي عن الثوابت واقصاؤها، لكن الدعوة الحقيقية هنا، هي دعوة إلى الالمام بالماهية الكامنة "للثوابت"، حتى نتمكن من التعامل الايجابي بها ومعها. فمن يُقر مثلا بان الاوراق النقدية ليست نقودا حقيقية(مُطلقة) بل هي محض احتيال مجتمعي لتسهيل الاجراء التجاري والاقتصادي، لا يُنكر بالضرورة اهمية البنكنوت، واقراره هذا لا يُمثل انقلابا عليها.

ومعاودة لحديثنا عن الثوابت المجتمعية، ندعي اننا-افراد المجتمع-كذلك مُلزمين بمُراجعتها لكي نتبين من "ثبوتها"، تجنبا للخطر المداهم الذي ينتج عن الركون لمبادئ وقيم تتحرك بسرعة تتباين عن سرعة عربتنا المجتمعية، فحينئذٍ سنُستهلك في محاولات مواكبة عوالم غير عالمنا: كمسايرتنا العمياء مثلا للغرب، او كاجتهادات البعض منا في محاكاة الماضي البعيد بُحجة اتباع منهج السلف الصالح.

حالة التشكيك في الثوابت الوطنية والقومية التي ذاعت بعيد ثورات الربيع العربي، تَدُل على رجاحة الدعوة إلى اعادة تقييم الاعراف والثوابت. فكنتيجة لانكشاف زيف الدعاوى الوطنية التي تخلط بين الوطن والدولة القائمة على حُكمه، اعاد الكثيرون من العرب النظر في وطنيتهم، وبالرغم من ان عملية المراجعة تمت بشكل غير مُتزن ادى بالبعض مثلا إلى اهدار قيمة المواطنة-فحال هؤلاء في التطرف كحال من يدعون لتهميش الاسلام كردة فعل على من يدعون لأسلمة الفنون والآداب-، إلا انها-مراجعة الدعاوي الوطنية-تُمثل بوضوح حالة الركون إلى مُتحرك باعتباره ثابت، وما ينتج عنها من آثار سلبية.


 كذلك تحتاج الاعراف الدينية لمراجعات ضرورية، تضمن مُطابقة التدين المُعاصر للجوهر الاصيل للدين، من خلال تعديل "صورة" الاحكام الدينية لتُساير الركب الحديث مع الابقاء على جوهرها، فالجوهر هو الاتجاه الذي خطا الاسلام اليه في زمان الوحي، اما صورة الاحكام الواردة في النصوص الدينية فهي بمثابة اخر خطواته، ولعله من السهل لكل ملاحظ ان يكتشف ان البشرية قد سرت اميالا طويلة بعد زمان الوحي، لذا يجوز الادعاء بأن من يُبقي على الاحكام في صورتها النصية، هو المخالف الحقيقي للشرع الاسلامي، فهو يسير تماما في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي خطا إليه الوحي. ومثالًا على ذلك ما فُرض بنص القرآن من حدود لجلد الزناة وشاربي الخمر-الذين انفضح امرهم-، وحدود لرجم المفسدين في الارض: فهذه الاحكام النصية تستتر وراءها الدعوة الى عقاب المخطئ المُعلِن عن خطأه وكذلك الداعي لممارسة الخطأ، كجوهر إسلامي صريح. وحين نرغب في مُحاكاة هذا الجوهر، علينا وقتئذ ان نُعيد تقييم المُخطئ والداعي للخطأ بمعايير وثوابت اليوم (فعلى سبيل الجدل ربما توجد حالة مجتمعية خاصة لا يُخطَّأ فيها شارب الخمر)، وكذلك يجب علينا ان نتجنب فخ الالتزام الحرفي بصورة العقاب (فالجلد والرجم والصلب ليسوا سوى ادوات عقاب تنتمي إلى زمن الوحي).

      يُتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخبرني عن رأيك...