الجمعة، 28 يونيو 2013

تعفن الديانة 3: المسيحية

ننتقل الآن بسطورنا هذه إلى مثال آخر على الانحطاط الديني، وهو المسيحية. أنوه مبدئياً انني لا أنتقص من قدر الدين في أصله بقدر ما أنتقص فيما عابه وصابه من تحريف وتعديل عبر الزمن ليكون ضامناً لبقاء السلطة في أيدي ممثليه.

الاضطهاد الروماني للمسيحين.
جاء السيد المسيح ببشارته السمحة، وتعاليمه المتسامحة، فاضطهده أهله من بني إسرائيل حتى صُلب، والتهمت نيران الاضطهاد أرواح النصارى من بعده، فقد اضطهدهم الرومان بداية من عهد نيرون (1)، حتى عهد قسطنطين العظيم الذي كفل للنصارى حرية العقيدة أخيراً. فسرعان ما خلعت المسيحية حُلّة الاضطهاد البالية وارتدت حُلّة النزاع العقائدي الزكية، فانعقدت المجامع المحلية والمسكونية (2) التي ناقشت أمور العقيدة ووضعت قوانين الإيمان، ثم عَقب ذلك بالضرورة ظهور جماعات المهرطقين (3) وكثرت المنازعات شرقاً وغرباً. وصل الأمر في بعض الأحيان للتكفير بين المتنازعين، وأحياناً بقيَ جدالاً معتدلاً.

وكما هو سائد بين الأديان، تعفنت المسيحية تحت وطأة الجهل، ولم يكن مخاضها من ذلك الطور سهلاً يسيراً، فلقد خرج الأمر عن مجرد سيطرة رجال الدين وامتد إلى تعذيب واحراق وقتل وتشريد في كل أنحاء العالم المسيحي، برروا موقفهم بكلمات موجعه من الكتاب المقدس مثل "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما. بل سيفا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه ...." (متى 10-34) فاندفع الناس ينفذون كلمات الإله، يقتلون ويسفكون الدماء، لاختلاف في الدين أو العقيدة أو المذهب أو حتى في الرأي، وعلى العموم فلقد تعفنت المسيحية إلى حد يثير الاشمئزاز على أيدي الرهبان والقساوسة، حتى قال أحدهم "لم يرَ التاريخ بهائم متوحشة، أشد افتراسا وقساوة من المسيحيين بعضهم لبعض" (4)، وكما أبنّا أنه كلما ضاق الخناق الديني على الناس، أبقوا على دينهم ما دامت السيطرة الدينية قائمة، ويبقى مفترق الطرق قائماً،

  • الطريق الأول هو التسرب إلى ديانة جديدة يجدون فيها براحاً كافياً لممارسة حياتهم اليومية بعيداً عن صداع النصوص وتزمت رجال الدين، كما كان من أهل مصر قبيل الفتح العربي، حيث أنهك مصر الانقسام المذهبي بين الملكانيين-كنيسة بيزنطةاليعاقبة-كنيسة الإسكندرية-، لذا أسرف الحاكم البيزنطي المقوقس في فرض العقوبات على اليعاقبة والتي بلغت حد الإحراق والتعذيب، فتجهزت نفسية المصريين للهروب من هذا الدين، لذلك لما جهز عمرو بن العاص لفتح-غزو-مصر، تحمس له المصريون واعانوه على الروم خير معونة، وبعد الفتح أسلم منهم الكثيرين وهجروا دينهم القديم من دون أدنى ندم.
  • محاكم التفتيش
  • أما الطريق الثاني امام من تعفن دينهم فهو طريق الإلحاد، ولكن الإلحاد يأخذ وقتا طويلاً كي يتأصل في المجتمع وكي يقرر أهل الديانة أنهم سأموا فكرة الإله التي تجبرهم على تلبية أوامر رجال الدين، وتلك السكة سلكتها أوروبا، حيث بلغ التعفن ذروة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً-حتى سُميت تلك الفترة بعصور الظلام-، فقد تدخلت الكنيسة الكاثوليكية في حياة الناس اليومية وفتشت عن أسرارهم، ونهبت أموالهم، و ابتدعت بدعاً عجيبة لفرض السيطرة مثل صكوك الغفران-صكوكاً يشتريها الناس لتغفر ذنوبهم-، وأُنشئت محاكم التفتيش التي تقوم على كشف المخالفين لآراء الكنيسة ومعاقبتهم والتي تُدلّل على عظم سلطان رجال الدين في ذلك العصر، و النتيجة الحتمية لهذا الانحطاط أن هرب المسيحيون من دينهم، بدأت دعوة الإلحاد بهمسات خافته في بادرة الأمر، ثم اندفع الناس من بعد ذلك أفواجا يعارضون آراء الكنيسة ويخرجون عليها، حتى وصلنا اليوم إلى هذا المجتمع الأوروبي المعاصر الذي لا يلقي بالاً إلى رأي تراه الكنيسة لا في كبيرة ولا في صغيرة بل ويروج لفكرة الإلحاد عند المجتمعات الأخرى لأنه يرى فيه طوق النجاة من قفص الدين المتعفن.
                                                                    
(1) قام نيرون بإحراق روما لمزاج خاص في نفسه، ثم ألصق التهمة بالمسيحين فعذبهم وقتلهم، ومن ضحاياه بولس وبطرس الرسولين.
(2)المجمع هو اجتماع لرؤساء الكنائس المختلفة في نطاق ما لبحث قضايا تخص الكنيسة او مناقشة بدع حلت محلها من الإيمان. وبكون المجمع مسكوني أي يشمل العالم كله شرقا وغرباً او يكون محلي أي يشتمل فقط على نطاق محدود. والمجامع فكرة يهودية الأصل.
(3) الهرطقة في المسيحية مثل الزندقة في الإسلام، كلتاهما تصف أفكار الشخص أو الجماعة التي تحيد عن المعتقدات السائدة.
(4) القائل هو البابا إمياثوس مارسلانوس، ونقل عنه هذا القول د.إدمون رباط في كتابه المسيحيون في الشرق قبل الإسلام.

  ،


أخيراً، أنوه على أنني لم أُكثر من الأمثلة-على الرغم من كثرتها-، فلقد آثرت أن أتحدث عن المجوس والنصارى فقط، لأسباب عدة منها أنهم جوار المسلمين في الشرق الأوسط، ومرت ديانتيهم بظروف مطابقة للظروف التي مر بها الإسلام الذي هو محل بحثي أصلاً.
   

        يُتبع ...  

                   تعفن الإسلام.

ملحوظة: في السياق تعرضت لبعض الأحداث التاريخية التي وصلتنا عبر نصوص دينية أو مقدسة، فآثرت الإبقاء عليها كما هي دون التعرض لمدى صحتها.

تعفن الديانة 2: الزرادشتية

لعل خير ما نقوم به الآن، أن نتابع تطور ديانة أو اثنتين من تلك الديانات التي تعفنت فنفهم ما عُني بهذه الأسطر السوابق. وخير مثالاً نبدأ به يكون الزرادشتية-أو المجوسية-فهي ديانة قديمة تعفنت، وهرب معظم أتباعها منها، حتى أنه في عصرنا نكاد نجزم بأنه لا يوجد كيان لزرادشتيون معاصرون.

ولد النبي زرادشت في أذريبيجان بـ حوالي ستمائة عام قبل الميلاد، ولم يكن انتصاراً لدعوته إلا بعد أن هاجر لـ بلخ حيث آمن به هنالك الملك وحاشيته، فأخذوا على عواتقهم مهمة نشر الدين، حاربوا وسفكوا الدماء حتى صار دينه ديناً رسميا لإيران. في تلك الآونة كان الوحي قد أتمّ له كتابه المقدس افستا والذي ينطبق في تعاليمه والإسلام من حيث القدر والبعث والصراط المستقيم، وعلاقة العبد بربه، وحتى في وصف زرادشت لنفسه بـ " أنه رسول الله بعثه ليزيل ما علق بالدين من الضلال، وليهدي إلى الحق".



النبي زرادشت
لكن تعاليمه القويمة لم تصمد أمام نحت الزمان، فنالتها الأيدي العابثة لتُحرف ما فيها من نصوص، وجاء من كل حدب وصوب إماماً للناس ينسّخ آيات زرادشت بحُجَجٍ مختلفة، مثل دعوة ماني الرهبانية-ربما تأثر بالمسيحية-، ودعوة مزدك (1) الاشتراكية التي بلغت حد مشاركة الزوجات.

ولعل الأمر امتد لأكثر من ذلك، حين كَثًرَ الجهل بين الناس وشغلهم الاهتمام بمظاهر الدين، فقهرهم الحرص على اتباع النصوص الدينية التي كانت مكتوبة بلغة فارسية قديمة لم يفهمها معظم المجوس في ذلك العصر، لكنهم أصّروا على اقتناء كتب الشروح ونفذوا ما فيها بحرفيته، وبالغوا في الاعتقاد بوجود إلهين (2)، و تحولوا من مجرد تقدير قيمة النار إلى تقديسها ثم عبادتها-لذلك يبلغ الظن عند معظم الناس أن المجوس هم عبدة النار-، وعَظُمَ سلطان رجال الدين فغلبوا على الحكم غلبتهم، وما ان تقهقر سلطان النظام الحاكم على القلوب حتى سقط الفرس غنيمة يسيرة في أيدي العرب لما هُزموا على أيديهم في موقعة القادسية، وكما أبنّا أن الضامن الوحيد لبقاء الأديان المتعفنة هو سلطة تكره الناس، لذا-وقد أُهلكت هذه السلطة- هرب المجوس من تلك الديانة المتعفنة إلى الدين الجديد!، صحيح أن بعضهم أبقى على دينه، لكن ذلك لم يكن إيماناً بقدر ما كان تعصباً عرقياً.
                                                                                          
(1) لـ مزدك كتاباً يسمى زند، لذا سُمّي أتباعه بـ زندي كاي ثم عُربت الكلمة لـ زنديق، وبعد ذلك حورها العرب لتشمل كل ملحد.
(2) حيث بالغوا في توصيف الجانب المظلم من الكون بصفة الألوهية وبرروا ذلك بآية "إن الذي ينظر نظرة الوعيد غير الذي ينظر نظرة الرحمة" من كتاب "الأفستا".


        يُتبع ...  

                 تعفن الديانة 3: المسيحية .
                     تعفن الإسلام .


ملحوظة: في السياق تعرضت لبعض الأحداث التاريخية التي وصلتنا عبر نصوص دينية أو مقدسة، فآثرت الإبقاء عليها كما هي دون التعرض لمدى صحتها.

تعفن الديانة 1

كان مرور نحو 570 سنة على المسيح كافياً لفساد العقيدة النصرانية، كما حدث للإسلام فيما بعد، وكما حدث للديانة الزرادشتية والبوذية فيما قبل. ذلك أن عقيدة الألوهية المجردة عن المادة والأجسام عقيدة صعبة المنال لا يدركها إلا خاصة الخاصة، وإن أدركوها فسرعان ما ينسونها ويميلون إلى الوثنية المألوفة الموروثة، لهذا أفسد العرب دين أبيهم إبراهيم وملأوا الكعبة بالأصنام. وأفسد اليهود دين موسى فاتخذوا عجلاً جسداً له خوار إلهاً لهم، وقالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وهكذا. فالألوهية المجردة والاستمرار على اعتقادها شاقة عسيرة. وقيل إن الإنسان ميال دائماً إلى التجسيد، لهذا فسد الدين في كل أمة من الأمم، واحتاجت إلى نبي جديد(1). وجُل الأديان القديمة فسدت بطرق مشابهة، فالزرادشتية فسدت ونسي المجوس كلام زرادشت وتزوج الملوك من بناتهم واخواتهم، اما الهندوسية فقد حول أهليها المجتمع إلى طبقات وأفرطوا في الوثنية بأمر الدين!

والراجح أن الأديان كلها تتمحور بنفس الطريقة، وتمر بنفس الأطوار، تبدأ بسيطة لا غلو فيها، تدعمها آراء نبي أو حكيم، ثم تتعاقب عليها الأجيال المؤمنة، ويُبذل الدم في سبيل نشر الدين، ويَتم نوره على بقاع الأرض فيدخله الناس أفواجاً. ثم يحين طور الترف العقائدي فتظهر على الساحة المبارزات العقلية والكلامية حول صفات الإله والقضاء والقدر وخلافه، وتجد ذلك النزاع تارة هادئاً لا يخرج عن نطاق المجادلات والمناظرات الحادة، وتجده تارة عنيفا قاسيا يقتتل الناس في سبيله.

 يتفشى أخيراً الجهل والانحطاط في عوام الناس، يتسارعون في تلبية دعاوي الرجوع إلى أصل العقيدة فيأخذهم النص أخذته ويضيع بين سعيهم الجوهر، يقهرون أنفسهم لتطبيق نصوصاً لا يفهمونها ظناً منهم أنها الخلاص، يتناسون أن تلك النصوص قد حُرفت واكلتها السنون، يبررون في كل ليلة نكبتهم ببعدهم عن الدين، ولرجال الدين في ذلك الطور خصائص بشعة، ندقق فيها لاحقا.

المعهود أن ذلك الحال قد يمتد لقرون! شريطة وجود نظام حكم قوي يستمد قوته من هذا الدين، يُكره السواد على ذاك الدين المتعفن ويأخذهم به، ولا يتخلص المجتمع من ذلك الجهل إلا بظهور دين جديد يحرك في الناس قلوبهم، ليندفعوا من جديد في نفس العجلة حتى يفسد عليهم الدين-الجديد-، أما إن لم يكن هناك دينا جديداً، تجد طَرقات خفيفة مرتعدة على باب الإلحاد في بادئ الأمر، وما أن يذيع في الناس خبر الإلحاد ربما وجدت مجتمع بأسره يحلق نحو الإلحاد، الذي هو مفتاح التحرر من قبضة رجل الدين القاسية.

ذلك التصور-السالف ذكره-حول تمحور الأديان لا يكفي لدراسة تدفق الأديان بعمق، ذلك أنه مما يؤثر في الدين طبيعة الشعب الذي يدين به والبيئة التي ينتشر فيها ذلك الدين وربما أثّرت بعض العوامل كالحروب والنكبات والمجاعات وكثير مما لا يمكن إجماله في سطورنا القليلة، لكن ذلك التصور يعطينا مؤشرات واضحة وبسيطة عن المراحل التي يمر بها كل دين عموماً، فهو كلاسيكي بقدرٍ كبير، يتجاوز عن دقائق الأمور ويفند في عمومها، فتخرج منه بمؤشرات عامة صحيحة تُدلّل على حالة وطبيعة الدين الذي أنت بصدد تفنيده.
                                                                                            
(1)   مقدمة كتاب يوم الإسلام لـ أحمد أمين، نقلت تلك السطور-وغيرها-كما هي، فلم أجد أليق منها ليعبر عما في خاطري.


       يُتبع ...

                   تعفن الديانة 2: الزرادشتية .
                   تعفن الديانة 3: المسيحية .
                   تعفن الإسلام .

الثلاثاء، 25 يونيو 2013

قصيدة الوحي












































أروع ما شعرت، و الأقرب إلى قلبي.

قصيدة الحج

غزلٌ عفيف، أو عشق إلهي أو ما تشتهون

لماذا الوحي ؟


الوحي كما حدّهُ ابن منظور في لسان العرب "الوَحْيُ: الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك. يقال: وحَيْتُ إِليه الكلامَ وأَوْحَيْتُ."، وعرّفه ابن فارس موجزا فقال في مقاييس اللغة " فالوَحْيُ: الإشارة
.والوَحْي الكتابُ والرِّسالة."، وأراحنا الفيروز ابادي في قاموسه المحيط حين قال "الوَحْيُ: الإِشارةُ، والكِتابَةُ، والمَكْتُوبُ، والرِّسالَةُ، والإِلْهامُ، والكَلامُ الخَفِيُّ، وكُلُّ ما ألْقَيْتَهُ إلى غَيْرِكَ، والصَّوْتُ يَكُونُ في النَّاسِ وغَيْرِهِم، "فلقد أوضح في غير تكلف جميع معاني كلمة الوحي.

في صفحات كل معجم، ترى كما هائلا من السطور التي تصف و تفند و تبحث في أصل كلمة الوحي و دلالاتها و ما تعنيه و كيف بدأت سطحيةً يقصد بها الكتابة ثم باتت عميقة ثريه يقصد بها إسرار الإله بكلماته و خطراته إلى عبد من عباده الصالحين المختارين، و كيف صارت هذه الكلمة تخبر بالكيف، ففي معناها أن الإلهام من الله لعبده يكون من خلال ملك يسمى جبريل، و كأن الله لا يتكلم إلا من خلاله، لكنها اللغة و العادة السائدة فيها، تبدأ كلماتها سطحية تصلح لوصف العديد من الأشياء المتشابهات ظهرا المختلفات بطنا، ثم يسود بين السواد تحديد معناها في شيء أو إثنين من تلك الأشياء، و عبر العقول المختلفة و الثقافات المندمجة تتحدد للكلمة أُطُر و مفاهيم و كيان خاص، و ربما يدخل فيها اللحن، أو يطرأ عليها تعديل فيجعلها أكثر ملاءمة لمحلها، أو يفسدها أصلاً.

 تلك الأطوار المختلفة التي يمر بها الكلام كله –إلا قليلا-تجعل مهمة الباحث في أصل الكلمة و معناها معقدة عسيرة، حتى و إن نظرت إلى المعاجم و القواميس، فذاك غير كافٍ، فالباحث في حاجه ماسه لأن يعرف متى بدأ الاصطلاح و كيف تعدل و لماذا تبدل، و تلك الأسئلة لا توجد لها إجابات شافيه في صفحات المعاجم، بل تجد الإجابة الكافية في كتب التاريخ، إي و الله في كتب التاريخ، فهنالك تقرأ الأخبار المتفرقة و تعلم بكل جديد صار في المجتمع، فتقهم لماذا عدلوا الكلام؟، و ترى بعينك أمورا كانت تمثل أساسيات الحياه اليومية في عصر من العصور و باتت ترفيهيه في عصر تالٍ فتقهم لماذا استغنوا عن كلمة ما؟، ولماذا بدلوا هذه الكلمة؟، لتصير لغتهم أكثر ملاءمة لحياتهم اليومية لا لحياة أجدادهم.




حتى لا أُطيل في الاستطراد وراء الكلام وتحويراته فذلك بحث ضخم لا يسعنا المجال لذكره، فهلم بنا نعود إلى مبتدأ القصد و هو الوحي، كلمة بدأت بسيطة سطحيه عند عرب الجاهلية الأقدمين-أو ربما ورثتها العربية عن الآرامية-، فقالوا أوحى أي كتب وقالوا أوحى أي أخبر وقالوا أوحى أي أشار، ولأنهم أسياد الكلام وخير من يتقن تحويره وتحويله، تبدلت الكلمة، فأكثروا من معانيها فصارت تعني النّار والمَلِّك والوَغى وأصوات الناس وغير ذلك كثيراً، لكن قبيل الإسلام-قبله بقرن أو ثلاثة قرون-، بات للكلمة جوهرا، و باتت تستخدم في سياق معين، ذلك أن العرب قد كثر احتكاكهم بأصحاب الديانات النبوية-أي التي تقوم عقيدتها على النبوة- من مجوس و يهود و غيرهم، وأصحاب ديانات البنوة-تقوم على ابن الإله-كالنصرانية والمصرية القديمة، فالنصارى كان لهم كنيسة النساطرة شرقي الجزيرة و كنائس الروم شمال غرب الجزيرة لا تحصى فسمع منهم العرب، و المجوس و قد حكموا بلاد الفرس فتعاملوا مع العرب في التجارة فسمع منهم العرب أيضا، أما اليهود فغنيٌ عن الذكر أنهم سكنوا الجزيرة جواراً مع العرب، فانتقل اللاهوت العبراني بأسره إلى الفكر العربي-وذلك قبل الإسلام و خصوصا قبيل البعثه-و تعرف العرب من سبل شتى على الوحي، الوحي الإلهي بالأحرى، لم يكن الأمر بهذه السطحية و لم ينتهي عند ذلك الحد، ففي صميم ديانة عرب الجاهلية كانت هناك مناح شتى للنبوة و الوحي، فكان التصور أن الكهان يتلقون أوامر الآلهة عبر معابدهم المتفرقة في أرجاء الجزيرة، و كان منهم –حسبما اعتقدوا-الأنبياء يتلقون الوحي من اللات و العزى و الله-إله المطر حينئذ-وغيرهم ممن عبدوا من الآلهة، نذكر من هؤلاء مسلمة بن حبيب الحنفي (*) و الصحابي-الذي كان أبوه يُعِّدَهُ للنبوة-جبير بن زهير بن أبي سلمى(**) وحنظلة بن صفوان(***) وخالد بن سنان من بني عبس(****) و غيرهم، ناهيك عن أنبياءً عددهم القرآن كانوا في جزيرة العرب كصالح و هود و شعيب-عليهم السلام-، فكثر اعتقادهم بالوحي و كثر وصفهم له، و تحددت معالم الكلمة و نضجت، و بانت المسافة بين معناها الأخير و ما بدأت به، فصاروا جميعٌ-إلا قليل-يقصدون بها ذلك الاتصال بين الإله و البشر المختارين، لينطقوا بكلامه و يبشروا ببشاراته و يتوعدوا بوعيده، مثل الأنبياء و الكهان و الرسل ثم القديسين و رجال الدين من بعد.

ثم جاء الإسلام أو قل نزل القرآن على محمد–عليه الصلاة والسلام-فأخبرنا في الآية الثالثة من سورة النجم "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" وكثير من المواضع الأخرى التي لا يسعنا إجمالها، لكن الله ثبت وأكد استخدام الكلمة في محلها الجديد الذي أسلفنا توضيحه، ونحن الآن في حل من مناقشة الآراء المختلفة في كيفيات الوحي وآونته، ذلك أن سعينا أصلاً وراء فهم كلمة الوحي في ذاتها لا وراء فهم الوحي الإلهي في الإسلام، فتلك قضية لا يسعنا السعي وراءها هنا.

نستخلص مما سلف ذكره أن معنى الوحي بدأ بالكتابة ثم صار المشافهة فالإسرار وأخيرا الإسرار الإلهي، لكن هل يحق أن تستغل كلمة الوحي في غير موضعها الأخير؟، فليسل المرء نفسه كم من كلمة عُدلت وبدلت لكنه ظل يستخدمها في موضعها الأول أو قل في أحد مواضعها الأولى؟ إجابة ذلك السؤال تشفي البواطن وتغني عن اللغط.

فلذلك سميتها بالوحي، لأنها وحيا بكل ما تحمله الكلمة من معان، فهي كتابة، وهي إلهاما ربانيا، وهي إسرارا بيني ونفسي، فهي خطراتي الخفية التي لا أفصح بها على الملأ، وهي الحق الذي أرى، إن شئت قل هي كـ"الوحي بل أقدسِ و أطهري".(*****)


 (*) اسمه الشائع مسيلمة الكذاب.
(**) هو أخو كعب بن زهير صاحب قصيدة البردة والتي ألقاها في مسجد الرسول وحضرته ومطلع القصيدة:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ                    مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
(***) قيل أنه نبي الله إلى أصحاب الرس حسب الآية: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُود) ق-12
(****) يشتبه أن النبي قال فيه "ذاك نبي ضيّعه قومهمن رواية ابن عباس، رواه الطبراني وابن عدي.
(*****)هذه الجملة مقتبسة من البيت الأخير من قصيدة الوحي خاصتي.

المراجع:
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي، الطبعة الثانية 1993 طبعة جامعة بغداد.
لسان العرب لابن منظور الأفريقي (المصري)،القاموس المحيط و مقاييس اللغة.