الوحي كما حدّهُ ابن منظور في لسان العرب "الوَحْيُ: الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك. يقال: وحَيْتُ إِليه الكلامَ وأَوْحَيْتُ."، وعرّفه ابن فارس موجزا فقال في مقاييس اللغة " فالوَحْيُ: الإشارة.والوَحْي الكتابُ والرِّسالة."، وأراحنا الفيروز ابادي في قاموسه المحيط حين قال "الوَحْيُ: الإِشارةُ، والكِتابَةُ، والمَكْتُوبُ، والرِّسالَةُ، والإِلْهامُ، والكَلامُ الخَفِيُّ، وكُلُّ ما ألْقَيْتَهُ إلى غَيْرِكَ، والصَّوْتُ يَكُونُ في النَّاسِ وغَيْرِهِم، "فلقد أوضح في غير تكلف جميع معاني كلمة الوحي.
في صفحات كل معجم، ترى كما هائلا من السطور
التي تصف و تفند و تبحث في أصل كلمة الوحي و دلالاتها و ما تعنيه و كيف بدأت
سطحيةً يقصد بها الكتابة ثم باتت عميقة ثريه يقصد بها إسرار الإله بكلماته و
خطراته إلى عبد من عباده الصالحين المختارين، و كيف صارت هذه الكلمة تخبر بالكيف،
ففي معناها أن الإلهام من الله لعبده يكون من خلال ملك يسمى جبريل، و كأن الله لا
يتكلم إلا من خلاله، لكنها اللغة و العادة السائدة فيها، تبدأ كلماتها سطحية تصلح
لوصف العديد من الأشياء المتشابهات ظهرا المختلفات بطنا، ثم يسود بين السواد تحديد
معناها في شيء أو إثنين من تلك الأشياء، و عبر العقول المختلفة و الثقافات
المندمجة تتحدد للكلمة أُطُر و مفاهيم و كيان خاص، و ربما يدخل فيها اللحن، أو
يطرأ عليها تعديل فيجعلها أكثر ملاءمة لمحلها، أو يفسدها أصلاً.
تلك الأطوار المختلفة التي يمر بها
الكلام كله –إلا قليلا-تجعل مهمة الباحث في أصل الكلمة و معناها معقدة عسيرة، حتى
و إن نظرت إلى المعاجم و القواميس، فذاك غير كافٍ، فالباحث في حاجه ماسه لأن يعرف
متى بدأ الاصطلاح و كيف تعدل و لماذا تبدل، و تلك الأسئلة لا توجد لها إجابات
شافيه في صفحات المعاجم، بل تجد الإجابة الكافية في كتب التاريخ، إي و الله في كتب
التاريخ، فهنالك تقرأ الأخبار المتفرقة و تعلم بكل جديد صار في المجتمع، فتقهم
لماذا عدلوا الكلام؟، و ترى بعينك أمورا كانت تمثل أساسيات الحياه اليومية في عصر
من العصور و باتت ترفيهيه في عصر تالٍ فتقهم لماذا استغنوا عن كلمة ما؟، ولماذا
بدلوا هذه الكلمة؟، لتصير لغتهم أكثر ملاءمة لحياتهم اليومية لا لحياة أجدادهم.

ثم جاء الإسلام أو قل نزل القرآن على محمد–عليه الصلاة
والسلام-فأخبرنا في الآية الثالثة من سورة النجم "إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى" وكثير من المواضع الأخرى التي لا يسعنا إجمالها، لكن
الله ثبت وأكد استخدام الكلمة في محلها الجديد الذي أسلفنا توضيحه، ونحن الآن في
حل من مناقشة الآراء المختلفة في كيفيات الوحي وآونته، ذلك أن سعينا أصلاً وراء
فهم كلمة الوحي في ذاتها لا وراء فهم الوحي الإلهي في الإسلام، فتلك قضية لا يسعنا
السعي وراءها هنا.
نستخلص مما سلف ذكره أن معنى الوحي بدأ بالكتابة ثم صار
المشافهة فالإسرار وأخيرا الإسرار الإلهي، لكن هل يحق أن تستغل كلمة الوحي في غير
موضعها الأخير؟، فليسل المرء نفسه كم من كلمة عُدلت وبدلت لكنه ظل يستخدمها في
موضعها الأول أو قل في أحد مواضعها الأولى؟ إجابة ذلك السؤال تشفي البواطن وتغني
عن اللغط.
فلذلك سميتها بالوحي، لأنها وحيا بكل ما تحمله الكلمة من
معان، فهي كتابة، وهي إلهاما ربانيا، وهي إسرارا بيني ونفسي، فهي خطراتي الخفية
التي لا أفصح بها على الملأ، وهي الحق الذي أرى، إن شئت قل هي كـ"الوحي بل
أقدسِ و أطهري".(*****)
(*)
اسمه الشائع مسيلمة الكذاب.
(**) هو أخو كعب بن زهير صاحب قصيدة البردة والتي ألقاها
في مسجد الرسول وحضرته ومطلع القصيدة:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ
مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ
مَكبولُ
(***) قيل أنه نبي الله إلى أصحاب الرس حسب الآية: (كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُود) ق-12
(****)
يشتبه أن النبي قال فيه "ذاك نبي ضيّعه قومه" من
رواية ابن عباس، رواه الطبراني وابن عدي.
المراجع:
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي،
الطبعة الثانية 1993 طبعة جامعة بغداد.
لسان العرب لابن منظور الأفريقي (المصري)،القاموس
المحيط و مقاييس اللغة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اخبرني عن رأيك...