الثلاثاء، 25 يونيو 2013

لماذا الوحي ؟


الوحي كما حدّهُ ابن منظور في لسان العرب "الوَحْيُ: الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك. يقال: وحَيْتُ إِليه الكلامَ وأَوْحَيْتُ."، وعرّفه ابن فارس موجزا فقال في مقاييس اللغة " فالوَحْيُ: الإشارة
.والوَحْي الكتابُ والرِّسالة."، وأراحنا الفيروز ابادي في قاموسه المحيط حين قال "الوَحْيُ: الإِشارةُ، والكِتابَةُ، والمَكْتُوبُ، والرِّسالَةُ، والإِلْهامُ، والكَلامُ الخَفِيُّ، وكُلُّ ما ألْقَيْتَهُ إلى غَيْرِكَ، والصَّوْتُ يَكُونُ في النَّاسِ وغَيْرِهِم، "فلقد أوضح في غير تكلف جميع معاني كلمة الوحي.

في صفحات كل معجم، ترى كما هائلا من السطور التي تصف و تفند و تبحث في أصل كلمة الوحي و دلالاتها و ما تعنيه و كيف بدأت سطحيةً يقصد بها الكتابة ثم باتت عميقة ثريه يقصد بها إسرار الإله بكلماته و خطراته إلى عبد من عباده الصالحين المختارين، و كيف صارت هذه الكلمة تخبر بالكيف، ففي معناها أن الإلهام من الله لعبده يكون من خلال ملك يسمى جبريل، و كأن الله لا يتكلم إلا من خلاله، لكنها اللغة و العادة السائدة فيها، تبدأ كلماتها سطحية تصلح لوصف العديد من الأشياء المتشابهات ظهرا المختلفات بطنا، ثم يسود بين السواد تحديد معناها في شيء أو إثنين من تلك الأشياء، و عبر العقول المختلفة و الثقافات المندمجة تتحدد للكلمة أُطُر و مفاهيم و كيان خاص، و ربما يدخل فيها اللحن، أو يطرأ عليها تعديل فيجعلها أكثر ملاءمة لمحلها، أو يفسدها أصلاً.

 تلك الأطوار المختلفة التي يمر بها الكلام كله –إلا قليلا-تجعل مهمة الباحث في أصل الكلمة و معناها معقدة عسيرة، حتى و إن نظرت إلى المعاجم و القواميس، فذاك غير كافٍ، فالباحث في حاجه ماسه لأن يعرف متى بدأ الاصطلاح و كيف تعدل و لماذا تبدل، و تلك الأسئلة لا توجد لها إجابات شافيه في صفحات المعاجم، بل تجد الإجابة الكافية في كتب التاريخ، إي و الله في كتب التاريخ، فهنالك تقرأ الأخبار المتفرقة و تعلم بكل جديد صار في المجتمع، فتقهم لماذا عدلوا الكلام؟، و ترى بعينك أمورا كانت تمثل أساسيات الحياه اليومية في عصر من العصور و باتت ترفيهيه في عصر تالٍ فتقهم لماذا استغنوا عن كلمة ما؟، ولماذا بدلوا هذه الكلمة؟، لتصير لغتهم أكثر ملاءمة لحياتهم اليومية لا لحياة أجدادهم.




حتى لا أُطيل في الاستطراد وراء الكلام وتحويراته فذلك بحث ضخم لا يسعنا المجال لذكره، فهلم بنا نعود إلى مبتدأ القصد و هو الوحي، كلمة بدأت بسيطة سطحيه عند عرب الجاهلية الأقدمين-أو ربما ورثتها العربية عن الآرامية-، فقالوا أوحى أي كتب وقالوا أوحى أي أخبر وقالوا أوحى أي أشار، ولأنهم أسياد الكلام وخير من يتقن تحويره وتحويله، تبدلت الكلمة، فأكثروا من معانيها فصارت تعني النّار والمَلِّك والوَغى وأصوات الناس وغير ذلك كثيراً، لكن قبيل الإسلام-قبله بقرن أو ثلاثة قرون-، بات للكلمة جوهرا، و باتت تستخدم في سياق معين، ذلك أن العرب قد كثر احتكاكهم بأصحاب الديانات النبوية-أي التي تقوم عقيدتها على النبوة- من مجوس و يهود و غيرهم، وأصحاب ديانات البنوة-تقوم على ابن الإله-كالنصرانية والمصرية القديمة، فالنصارى كان لهم كنيسة النساطرة شرقي الجزيرة و كنائس الروم شمال غرب الجزيرة لا تحصى فسمع منهم العرب، و المجوس و قد حكموا بلاد الفرس فتعاملوا مع العرب في التجارة فسمع منهم العرب أيضا، أما اليهود فغنيٌ عن الذكر أنهم سكنوا الجزيرة جواراً مع العرب، فانتقل اللاهوت العبراني بأسره إلى الفكر العربي-وذلك قبل الإسلام و خصوصا قبيل البعثه-و تعرف العرب من سبل شتى على الوحي، الوحي الإلهي بالأحرى، لم يكن الأمر بهذه السطحية و لم ينتهي عند ذلك الحد، ففي صميم ديانة عرب الجاهلية كانت هناك مناح شتى للنبوة و الوحي، فكان التصور أن الكهان يتلقون أوامر الآلهة عبر معابدهم المتفرقة في أرجاء الجزيرة، و كان منهم –حسبما اعتقدوا-الأنبياء يتلقون الوحي من اللات و العزى و الله-إله المطر حينئذ-وغيرهم ممن عبدوا من الآلهة، نذكر من هؤلاء مسلمة بن حبيب الحنفي (*) و الصحابي-الذي كان أبوه يُعِّدَهُ للنبوة-جبير بن زهير بن أبي سلمى(**) وحنظلة بن صفوان(***) وخالد بن سنان من بني عبس(****) و غيرهم، ناهيك عن أنبياءً عددهم القرآن كانوا في جزيرة العرب كصالح و هود و شعيب-عليهم السلام-، فكثر اعتقادهم بالوحي و كثر وصفهم له، و تحددت معالم الكلمة و نضجت، و بانت المسافة بين معناها الأخير و ما بدأت به، فصاروا جميعٌ-إلا قليل-يقصدون بها ذلك الاتصال بين الإله و البشر المختارين، لينطقوا بكلامه و يبشروا ببشاراته و يتوعدوا بوعيده، مثل الأنبياء و الكهان و الرسل ثم القديسين و رجال الدين من بعد.

ثم جاء الإسلام أو قل نزل القرآن على محمد–عليه الصلاة والسلام-فأخبرنا في الآية الثالثة من سورة النجم "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" وكثير من المواضع الأخرى التي لا يسعنا إجمالها، لكن الله ثبت وأكد استخدام الكلمة في محلها الجديد الذي أسلفنا توضيحه، ونحن الآن في حل من مناقشة الآراء المختلفة في كيفيات الوحي وآونته، ذلك أن سعينا أصلاً وراء فهم كلمة الوحي في ذاتها لا وراء فهم الوحي الإلهي في الإسلام، فتلك قضية لا يسعنا السعي وراءها هنا.

نستخلص مما سلف ذكره أن معنى الوحي بدأ بالكتابة ثم صار المشافهة فالإسرار وأخيرا الإسرار الإلهي، لكن هل يحق أن تستغل كلمة الوحي في غير موضعها الأخير؟، فليسل المرء نفسه كم من كلمة عُدلت وبدلت لكنه ظل يستخدمها في موضعها الأول أو قل في أحد مواضعها الأولى؟ إجابة ذلك السؤال تشفي البواطن وتغني عن اللغط.

فلذلك سميتها بالوحي، لأنها وحيا بكل ما تحمله الكلمة من معان، فهي كتابة، وهي إلهاما ربانيا، وهي إسرارا بيني ونفسي، فهي خطراتي الخفية التي لا أفصح بها على الملأ، وهي الحق الذي أرى، إن شئت قل هي كـ"الوحي بل أقدسِ و أطهري".(*****)


 (*) اسمه الشائع مسيلمة الكذاب.
(**) هو أخو كعب بن زهير صاحب قصيدة البردة والتي ألقاها في مسجد الرسول وحضرته ومطلع القصيدة:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ                    مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
(***) قيل أنه نبي الله إلى أصحاب الرس حسب الآية: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُود) ق-12
(****) يشتبه أن النبي قال فيه "ذاك نبي ضيّعه قومهمن رواية ابن عباس، رواه الطبراني وابن عدي.
(*****)هذه الجملة مقتبسة من البيت الأخير من قصيدة الوحي خاصتي.

المراجع:
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي، الطبعة الثانية 1993 طبعة جامعة بغداد.
لسان العرب لابن منظور الأفريقي (المصري)،القاموس المحيط و مقاييس اللغة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخبرني عن رأيك...