السبت، 21 فبراير 2015

دِماؤكَ أيُها الّنبيّ




في بادرة حياتي،
رأيت رؤيا...
  
هدير الماء و حفيف الغصون،
هفيف وريقات الشجر،
شفتان كالعنب تَحُدّان فمًا من الحُمرة قانِ،
أنفٌ ضئيلٌ مُدَبب و جَبين ناعم تَمددَ،
مؤطرٌ ما سَلف في وجهٍ مليحٍ،

مالت علي،
قبَّلت فيِّ،

انتحبَت، ثُم ذرفت عَبرة وحيدة كئيبة،
سرت على خدها الأيمن،
قالت لي بصوت مرتجف:

ستكون الروح...
    ،

انتهيت لتوي من الكأس الثالثة، كأس السكوتش المقدسة. لقد نجحت تلك الكأس هي وسابقتيها في تسكين باطني بالدفء، فبعد ان آلمتني طقطقة أسناني وراعني ارتجاف الأطراف مني، ها أنذا دفآنٌ هانئ رغم أنف برودة امشير وزعابيبه. كانت ليلتنا كحيلة، هربانة من سماءها النجوم، وضبابها في الأنحاء متكوم يحجب عنا البدر المكتمل في علياءه. لاحظته يكبر تدريجيا، القمر اقصد، صار ملئ السماء، وقد مال لونه للاصفرار، لقد صار شمسا مُتعامدة  فوق رأسي، تكاد تحرقه. تصبب عني العرق، وغاب من حولي مشهد الحانة والندماء، رأيتهم يتباعدون، أو بالحق، رأيتني أنا الذي ابعد، بل رأيتني أقترِبُ، اقتربُ منيّ، رأسي يدور. هجم الضباب على المشهد فجأة، لا لم يكن ضبابا، كانت سحابة سماوية ناعمه رأيت زخارفا شرقية واغريقية، نقشها ذهبي وأزرق، الأول لون العظمة والثاني يخُصُّ الويل.

"غُيِّبتُ عنك لفترة...
فرأيتني...
فعلمتُ أن لقاءنا قد حان..."

اقتربتُ مني، لاحظت انني كهلٌ، يفوقني بعشرينا من السني، يتخلل اسوداد لحيته خصلات ذهبية وأخرى فضيه. رصينة نظرتة الرزينة المؤطرة بحاجبيه المنعقدان في تجلال مهيب. وجههُ كما وجهي إذا زينته التجاعيد، التي تشي بفيض الحكمة والفطنة. إن الأربعين لهو سنُّ النبوة، والنبوة رِفعة وسمو روحاني يؤتثر بها أولياء الله الصالحين، يتحدون مع الواحد أولا، فتنكشف لهم الحجب، وتزول الغيوم عن رؤاهم ثانيا، حينها يهتبلون من نهر الوحي الجاري إلى يوم تُبعثون.
اقتربتُ مني اكثر، فبدا لي أنه اضخم مني، مفتولةٌ عضلاته، عروقه ناتئة ، تتفجر اضلاعه بالبأس والحول، في تحرك اطرافه استحكام قارس، فَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ...
نظرتُ في عينيَّ، تنسال شلالات الفرح بين اساريره، وتلمع عيناه بتحنانٍ لرؤيتي، فهو يهواني مثلما اعشقهُ، كَلفٌ أنا به، ومتيم هو بيِّ، فحبُنا موجودٍ من قبل البشر، بل من قبل الوجود ذاته، من قبل كل قبلٍ.

"في البدء، كان الكلمة...
ما كلمة للبدء سوى كلمة الحب..."

-أنت تُشبهني، أم انه السُكر الذي أمُر به؟؟
ضحك متقهقها، فترددت اصداء ضحكته في الأرجاء، ولاحظت ان جمعا من الحاضرين التفتوا إزاءه، من اين جاء هذا الحضور؟ رجالٌ ونسوةٌ، بيضٌ وسودٌ، تُزوِّق جباههم تيجانًا ذهبيةً تأخذ الأنباه، وتستر ابدانهم دروعا مُرصعه بالدم والطين!
بهتت صورة الملائكة، وبرزت صورته، حينما قال بصوت رنيم: من ينظر في مرآة الرب لا يشوف سوى صورته، هكذا جَبَلتكم وهكذا تكونون، هكذا أُريد بكم...

أخذني استهجان لما قال، وطفقت بذهني التساؤلات تطوف. كيف يكون "هو" على شاكلتي !!
-ما العجب يا ولدي؟ ذرأتكم لا يرى المرء منكم سوى ذاته في الوجود، وانا الوجود اجمع! اذكر معي كيف رسمتم المسيح بهيئات كُثُر، خلتم انكم تتأملون الملكوت السماوي، فما رأت ارواحكم إلا انفسكم، هكذا حالكم إلى منتهى الأزمان.
سكتَ بُرهة، ثم بسط ذراعية بالترحاب وهو يقول: قُل ليِّ يا غُلام، هل تشعر انني أنت؟
تحشرج صوتي وأنا اُعلِق: حاشا لله، حاشا لكَ يا ابت، بل انت السمو و...
زعق وقد اقتضبت ملامحه: لا تُخاتر الرب، ولا تفترِ قُدامِه!
رمقني، لفحني القيظُ المتقد في حدقتيه، آنفًا، نظمتُ راغمًا: أنتَ أنا ... لستَ سِوى الأنا، لستَ بغيرٍ، وما من شئٍ في الوجودِ بغيرٍ ... كله أنا وأنا الوجود بالكلية.

"وأنا إن قُلتُ أنت...
فأنا أنت الذي أعني...
وأقصدُ بالندا إيانا..."

بَرَد، بَرَد حرُّ الشمس من فوقنا، لما قرَّ هو بما اجبتُ، فبشَّ، تماما كما اتبسم، تمططت شفتيه بميل ناحية اليمين اكثر مما تتمطط ناحية الشِمال. اقترب مني واحاطني بذراعه الفتيَّ، ضمني إليه بشدة لا تخلو من حنو، وهمس: انت ترتجل كُل هذا! انفرجت ابتسامته اكثر واكثر.
راعني قوله، تذكرت السهرة، الحانة والندماء، السكوتش ومكعبات الثلج، اهتاج باطني، فدحرته بعيدًا، وصحتُ: أنت إذن مُجرد هلوسة تدور برأسي دورانا! لست أنت أنت كما ظننتُ!
بهت الوجود قليلا من حولي لما غدقنا الضباب، فاجابني مُعاتبًا: أين الأضاد؟ وفيم التناقض؟ ما يمنع أن أكون برأسك وأن أكون الرب في آن؟؟

" إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله—صحيح البخاري"

سكتُّ بُرهة، طال السكون ساعة، وأنا ارنو وجهه الكريم. في النظر إليه حلاوة لا أروع. صرت أنا الأربعيني وصار أنا العشريني. طال السكون يوما، ثُمَّ تبدلت الأدوار ثانية. طال السكون كسنيٍّ مرت ثُم تبدل هو، من العشريني إلى الأربعيني مُجددا. كاد يُذهلني ما حصل، لكنني كُنت مشغولٌ عن عبث الرؤية وشتاتها، بحسن جماله، ووضاءة شكلِهِ، ونضارة هيئته، ومَلاحَة قَسَماتَة، ورَوْعَة عظمته، وسحر بَهاءه...

"وبحبك اشتغلت حواسي...
مثلما بجمالك امتلأت جميع جهاتي"