الأربعاء، 11 يونيو 2014

لقد رميتم البخاري بالكفر من قبل!

قام رجل للإمام البخاري يسأله "يا أبا عبدالله ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أم غير مخلوق؟"(1)، وهذا السؤال لا يخلو من سوء نية، فالرجل لم يسأل لحاجته العلم، بل سأل إمتحانًا وفحصًا لدين الإمام، لذا اعرض عنه-البخاري-تجنبًا للحرج، فألحّ الرجل بسؤاله مرة بعد مرة، والبخاري يأبى ويتمنع، لكن الرجل ظل يجهر بالسؤال مرارًا، فاضطر البخاري ان يجيب:"القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة"، وهو بذلك يُثبت ضمنيًا أن لفظ القرآن الذي ينطق به المرء ليس إلا مخلوق كسائر الأفعال الانسانية بصرف النظر عن حالة القرآن ذاته من الخلق(2)، فتهوَّشَ القوم الحاضرين وانفضوا من حوله اعتراضًا على مقولته.

وصل خبر الحادثة لمحمد بن يحيى الذهلي(3) فقال "قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية واللفظية عندي شر من الجهمية"، وترأس بعدئذ حملة شرسة ضد الإمام البخاري، رماه من خلالها بالكفر، وحرم على الناس حضور درسه، حتى أنه طرد مسلم بن الحجاج(4) من مجلسه ذات مرة لأنه كان يقصد البخاري، وبلغ الذُهلي شأوه حين اعلنها صريحة "لا يساكنني هذا الرجل في البلد"، فاضطر البخاري للرحيل من نيسابور إلى بُخارى(5)-مسقط رأسه-، التي نبذوه منها كذلك بحُجة كفره.

وهكذا، ضاقت الارض بما رحبت على البخاري-الذي صار فيما بعد رجل الحديث الأول، وواضع اسس تصحيح الحديث المعمول بها الى اليوم-فلقد حكموا عليه بالكفر إثر مقولة نبتت عن رأي يراه، استنبطوا منها ما يحاجوه به، وأرادوا أن يأخذوا على يديه بتهمتهم، مع أنها لم تثبت عليه ولن تثبت إلا أن ينطق بها، فهل هموا علموا السر واخفى حتى يجزموا بكُفرِه؟!. والرجل لما سُئل عما فُعل به، ردد قول النبي-عليه السلام-"إيما امرئ قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه"، وفي ذلك الحديث شفاء وتشفية، شفاء من وباء التكفير، إذ يعلمنا بخطورة وضراوة الاتهامات من تلك النوعية، وتشفية لصدور ضحايا تلك الاتهامات، فاليد التي تشير باصبع اتهام واحد تجاه المتهم، تشير بثلاثة اصابع معقوفة تجاه صاحب الاتهام...

الذهلي واتباعه من الحنابلة، ومن ورائهم الكثير من المسلمين، يظنون ان الدين حكرًا عليهم، وأن بقاؤه مرهون بغلوهم في تصنيف الآخرين الى كافر ومؤمن بغير حق، يلوكون في افواههم لعنات الكفر بمنتهى اليسر، دون ادراك لكارثية الخطاب التكفيري، ذلك الخطاب المهيل الذي يضر الاسلام والتدين بل والايمان في صورته المجرده، فهو جرثومة مجتمعاتنا الرجعية، وهو الآفة التي تأكل القلوب وتثير الحفائظ وتهيج البواطن، وتستهوي البسطاء إلى الاقتتال، وتحرم الافراد من حرياتهم في التفكر، وتتعاظم كنتيجة لها الفجوات الفاصلة بين اطياف المجتمع، ناهيك عن تعارض هذا الخطاب مع المبادئ التي ارساها القرآن، من كون الله هو علام القلوب، وكونه هو الحاكم عليها، لا شريك له فيها، فالمتطفل على ذلك الحق الألوهي الخاص يُلقي بنفسه الى تهلكة الشرك والاشراك.

يبدأ منطلق الخطاب التكفيري من الخلط بين الايمان والعقيدة الفكرية، بحجة أن العقائد تلوث الإيمان وتفسده، وأنه لا عبادة صادقة في ظل عقيدة فاسدة، وأن العارفين بالعقيدة السليمة عليهم ان يحسروا الغطاء عمن كفروا بتلك العقيدة بدعوى حماية الدين وحفظه، وذاك الظن يسوء ويوئس، لكونه متضاربًا قائمًا على الأضاد، فالإيمان حركة قلبية، محورها اليقين، تموج فيها المشاعر وتنساب فيها العاطفة، أما المعتقد، فتصرفٍ عقلي محوره الشك، تنحدر خلاله الأفكار وتتصارع معه وجهات النظر. وفي الأثر أن قوم من اصحاب النبي-عليه السلام-سألوه "إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به"، فقال: "وقد وجدتموه؟" فقالوا: "نعم"، فقال:" ذاك صريح الإيـمان"(6)، والنبي بذلك يؤسس للفكرة ذاتها، فعلى سبيل الغلو المحمود، يمكننا القول بأن هدف العقيدة من منظور الإيمان هو اسكات العقل واراحته ريثما تتصل الروح بخالقها.

لذلك كله لا نرى داع لخطاب التكفير، سواء في ذلك تكفير أهل الديانات الاخرى وتكفير اصحاب الرؤى المتباينة للدين-وان كان اختلافها شاسعًا-، فالتكفير-كما ابنا-يخلخل اعمدة التدين ويهشمها، في عصر تتهافت فيه العقول كي تصرع الدين وتفنيه، في عصر يحتاج فيه الدين لمن يلوذ عنه وينقيه مما علق به، بالعقل والحجج، لا بالاستقطاب ولا بتأسيس العداوات ولا بالحجر على العقول.

لقد امترى علىَّ الكثيرون بالكفر، ان لم يكن جهرًا واعلانًا على الملأ، فَسِرًّا، وإلا فالنظرة من احدهم تحمل اتهامًا والف اتهامٍ بالكفر، وهم من حولي يظنون ان بي جنة، أوأنني قد صبأت، كأنما انكشفت امامهم الحجب وعلموا مني ما لا يعلمه الا الله!، وهذا ليس بالجديد، فمن كان البخاري-يومًا-في عينية كافرًا، خليق بأن اكون في عينيه ملحدا!.
في الحقيقة، لا أرى داع لانكار مزاعمهم، فربما هي في محلها، فمن ذاك الذي يعلم قدر إيمانه؟، ويأمن ألا تكون ظنونه كلها عين الغرور؟. فالله وحده هو من يعلم ما توسوس به النفس، وهو علام الصدور، هو من يعرف محل كل انسان من الايمان، فلست انا ولا هم ولا احد سواه جديرا بأن يفصل في موضوع الايمان...
_________________________________________

(1)جرى نزاعًا عظيمًا بين المُسلمين-في مطلع القرن الثالث الهجري-حول خلق القرآن سُمي بالمحنة، والسؤال هنا يدور حول فعل النُطق بالقرآن (كترتيله وتلاوته)...
(2) وذلك الرأي مُختلفًا عن رأي الحنابلة، فـ ابن حنبل حين سُئل عمن قال بخلق القرآن فقال بكفره، وعمن نفى خلق القرآن فقال بكفره، وعمن قال "لفظي بالقرآن مخلوق" فقال"هذا لا يُكلم ولا يُصلى خلفه"، فقد كان ابن حنبل متعسفا بذلك الخصوص وكذلك كان اتباعه.
(3)الإمام الذُهلي، من اكابر علماء الحديث، ومن اشهرهم، يُعتبر استاذا للبخاري ومسلم صاحبي اكبر كتب الحديث.
(4)الإمام مسلم، عالم حديث مشهور، صاحب كتاب صحيح مسلم، ثاني كتب الحديث دقة بعد صحيح البخاري.
(5)نيسابور وبخارى من مدن المشرق الإسلامي.
(6)صحيح مسلم.