الأحد، 12 أكتوبر 2014

تعفن الإسلام، اعادة الإحياء (ب)


"مشروع اعادة احياء الدين، كجزء خاص وحيوي من المشروع الاكبر: مشروع اعادة قراءة التراث، يُمكن تمثيله في عملية قراءة واعيه بمجريات تحرك وتجدد الحالة المجتمعية(كمراعاة ضرورية لنسبية التفهم) تهدُف بالأساس إلى الكشف عن مغزى وفحوى(جوهر)النص الديني متجاوزه عن حرفية النص وظاهره، وذلك اعتمادًا على منهجية نقدية علمية في القراءة: تتبنى الشك في صحة وصلاحية النص المدروس كمحور للتساؤل-خلاف التداول التقليدي للنصوص، الذي يتكئ على النقل ويتسم باليقين والحسم الذهني-، كما تقوم بافتراض خصائص علمانية(1) للنص تُمهد الطريق امام اساليب البحث العلمي المختلفة في تفكيك قوالب اللغة وتحديد "مغزى" النص(2)"



لكي ينجلي الإبهام عن هذا التعريف الجاف، يُمكننا ان نُجري محاكاة(3) له على مسألة ما، ولتكن مسألة "السحر والحسد": يتخذ مسلمو اليوم الكثير من الاحتياطات لدرء شرور الحسد والعين، وهم يُنشئون ايمانهم بوجود وبضراوة الحسد على انه ذُكِر بالقرآن. وبلُغة هذا المقال نقول: انهم يستندون في تدينهم بالحسد إلى ظاهر النص القرآني. والمُسلمون في الوقت ذاته يتنكرون للأيمان بالسحر، بل ويستجهلون الدجاجلة والعرافين ومن يلوذ بهم، على الرغم من ان المحل الوحيد الذي ذُكرت فيه كلمة الحسد بمعنى العين التي تضر في القرآن قد لازمتها كلمة السحر بمعنى الشر الذي يزاوله المشعوذين (سورة الفلق، في قوله: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ. فالنفاثات في العقد هن الساحرات)، اما بقية المواضع التي استخدمت فيها كلمة الحسد فمجازا بمعنى الحقد والضغينة (مثل البقرة 109)، وكلمة السحر لم تُذكَر إلا في سياق القص التاريخي (مثل البقرة 102) (4). هُنا يأتي طرح مشروع اعادة القراءة بعقد موازنة بين واقعنا المعاصر الحافل بالمنجزات المادية وبين زمان الوحي الذي عمت فيه الخرافة والاساطير، فيتجلى امامنا ان استحضار دلالة السحر والحسد في القرآن كان اخذا وردا على مجريات البيئة العربية آنذاك، وهكذا، دائما تبدأ حركة المشروع من ارضية علم الرواية(5) ثم تنطلق في آفاق علم الدراية كاشفة عن المغزى الكامن وراء النص الحرفي، ثم تترك الباب مفتوحا لمجريات قولبة هذه الفحوى في سياق تقدمي حداثي، لئلا يكون الدين عائقا عن التقدمية ولكي لا تدفعنا التقدمية إلى تنحية الدين.

وبفضل هذا المنوال التدرجي: دراية\مغزى\مسايرة، يستحيل ان يُتهم المشروع بانه دعوة تلفيقيه تعمد إلى تلوين النصوص(6)، فعلى النقيض من المحاولات التلفيقيه التي تبدأ من الايديولوجيا ثم تُجري عملية اسقاط ايديولوجي على نصوص الاسلام (مثل بعض التأويلات التي تعمد لتقبيح صورة مِصر من خلال القرآن-سورة يوسف بالتحديد-واعتماد البعض الاخر على نفس السورة في اثبات ان مصر بلد الامن، وكلا الموقفين التلوينيين من السورة يعمد إلى اهدار البعد القصصي والتاريخي في السورة، التي تهدف بالأساس لسرد سيرة احد الانبياء، ولا دخل لها بأمن مصر ولا بظلم حُكامها)، فالمشروع يبدأ نهجه بالتعامل مع النصوص الاسلامية تحاشيا وتجنبا للتلوين.
_____________________________
(1) برغم ان مصطلح العلمانية صار مثيرا للذعر في مجتمعاتنا العربية، كنتيجة لابتسار العلمانية في "الفصل بين الدين والحياة" من قبل القوى الاصولية-التي تُغذي ادراكنا بابتسارات متعمده هنا وهناك، فالعلمانية والماركسية والداروينية محض إلحاد، دون إلمام حقيقي بالدلالات الاصلية وراء هذه المصطلحات-. ونحن لا نعفي العلمانيين العرب من المسئولية عن هذا التشوية، فلتصرفاتهم المختلة دور كبير في تزييف الوعي العام. إلا اننا-برغم ذلك كله-نُصر على استخدام المصطلح في محله الاصلي: فللمصطلح دلالته على التعامل مع الامور بصفتها جزءا من هذا "العالم"-مصدر اشتقاق كلمة العلمانية-، مُهمشين-اثناء اجراء الدراسة- اي دور ميتافيزيقي في القضايا المدروسة.
(2) للاستفاضة حول مشروع اعادة القراءة والتعمق في آلياته، راجع الباب الثالث من كتاب "نقد الخطاب الديني" للدكتور نصر حامد ابوزيد.
(3) نقول محاكاه ولا نقول تطبيق فعلي، لان التطبيق الفعلي لعملية اعادة القراءة ينبني على اسس علمية بحثية تستغرق فترات زمنية طويله وجهد شاق عسير يبذله اصحاب العلم والمعرفة. ناهيك عن ضيق المساحة، والطبيعة الإيجازية لهذا المقال.
(4) راجع "الفن القصصي في القران لـ محمد احمد خلف، حتى تتبين من دلالة ذكر الفاظ معينة في القصص القرآني.
(5) يشمل "علم الرواية" على كل ما يتعلق بالقوالب اللغوية والاسانيد واسباب النزول واحكام النسخ وغيره من الامور التي تُساهم في تكوين وعي حقيقي بمدلول النصوص، اما علم الدراية، فيختص بتوضيح هذا المدلول.
(6) للاستفاضة حول الطبيعة التلوينية والتوفيقية لبعض مُحاولات احياء الدين، راجع الباب الثاني من كتاب "نقد الخطاب الديني" للدكتور نصر حامد ابوزيد.

 ،

كثيرا ما يَحتَّج ذوي الدعاوى الاصولية على مشروعية قراءة النصوص الدينية بأسلوب نقدي يفترض لها خصائص علمانية: بحكم ان هذه النصوص إلهية المصدر، لا يجوز التساؤل حول صحتها، وإلا مسسنا قدسية هذه النصوص، ولا يحق لاحد ان يزعم علمانيتها، فهي بالفعل تنتمي لعالم ميتافيزيقي يحتوي عالمنا المادي كجزء منه.


ــ أولا: إن التساؤل النقدي في التعامل مع النصوص الدينية ليس تساؤلا حول صحة النص ذاته، فهذا الامر ليس بجديد، بل هو مُتبع لدى المسلمين منذ زمن طويل، لكن محور الشك الحقيقي في هذه الدراسة يختص بالدلالات المُستنتجة من النص، والتي تعتمد كليا على المعلومات المحيطة بالنص (علم الرواية)، وعلى العقول المُستفهمة عن معنى النص، فالدراسة النقدية لا تمس الدين بقدر ما تُجري ميكانيكياتها الفحصية على التدين.

ــ ثانيًا: إن قدسية الشيء مُرتبطة بتقديسنا اياه، فلا وجود لمقدسات مُطلقة-كما يتضح من فقرة نسبية التفهم-، لذلك تجد بؤرة التقديس تضيق وتتسع بحسب وعي الافراد، فبينما يُدرك القليلون ان الحقيق الوحيد بالقداسة هو الالهي المطلق، يمدُ الاخرين دائرة قداستهم لتشمل نطاقات بشرية (مثل تقديس اقوال الفقهاء والقديسين). الجدير بالتأمل هنا هو ان الفرد ما دام هو مصدر التقديس، صار هذا الفرد قادرا على تقرير مُقدساته، ومن غير المعقول تماما ان نُصدق ان ثمة دراسة-وان كانت نقدية-لنص ديني مُقدس تستطيع ان تُزعزع اركان قداسته المُترسخة في النفوس!

ــ ثالثا: يتغافل الاحتجاج بشكل عمدي عن البُعد البشري في النصوص ليُبرز الجانب الالهي ويجعل الاخير يطغى على الاول، والواقع يُملي ان النصوص تحتوي الشقين، فكما قال الامام علي رضي الله عنه: هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين. لا ينطق. إنما يتكلم به الرجال، فنحن دائما ما نستند للعقل البشري في إدراك دلالات اي نص، لا سيما النص الديني، فالطابع الرسالي للقرآن يجعله كتابا مُستفهَم عن دلالاته بواسطة العقل البشري. فاذا عزلنا العقل تماما عن النص، استغلقت النصوص واستحال فهمها. وما دامت هناك تفهمات عدة لدلالات النصوص، فلنا ان نقول إن العقل البشري-شئنا ام أبينا-"كان" و"لا يزال" يستفهم عن دلالة النص (فلا مجال للقول بتحريم إعمال العقل في نصوص القرآن إذًا!)، والسجال هنا يدور حول كيفية استخدام هذا العقل: هل نعتمد العقلية النقلية التي تركن إلى ما استنبطه السلف والذي-قطعًا-يرتبط بمجريات زمانهم؟، أم نعمل على استغلال الميكانزمات النقدية الحديثة التي تبني جسرا متينا بين الواقع ومغزى النصوص؟

وكمزيد من الايضاح نقول: ان الفكرة الإلهية في الوحي تقولبت منذ البداية في اللغة العربية، وهي لغة بدلالاتها وقوالبها الصرفية والنحوية، لُغة بشرية. حتى وان افترضنا جدلا ان اللغة العربية لغة ذات طابع إلهي، فان هذا لن يُغير من الامر شيئا، فالعقول المُستفهمة عن دلالات هذه اللغة العربية-كما ابنا-لا تزال عقولا بشرية تنتمي الى هذا العالم ومادته. اذن فالإلهي(الفكرة)قابع في البشري(اللغة)، فالأول يتصرف حتما تبعا لخصائص الثاني. ناهيك عن تاريخية تلك النصوص، والتي تتجلى في علاقة ديالكتيكية(1) بين الإلهي والانساني، فدَفعةُ الوحي اولا من الإلهي، ثم ردة فعل استفهامية من البشري تُغير في دلالة المعنى وتحوره، ثُم حادثة تاريخية مُرتبطة بالواقع المادي، يُعلق عليها الوحي بالرد فيصير الالهي متأثرا بالإنساني، وهكذا دواليك، حتى بعد نياحة النبي-عليه السلام-بقيت العلاقة الجدلية قائمة: فالمئات من المُفسرين والناقلين لأقوال وافعال النبي البشرية تجاه الوحي الالهي، الذي تأثروا به أولا، ثم اثروا فيما نقلوا بأفهامهم البشرية حين علقوا عليه، والجانب الالهي يلعب دوره من خلال خطرات خفية بين الحين والاخر تَرد إلى عقول المُستفهم البشري(تلك الخطرات التي اعتزت بها ومجدتها جماعات الصوفية)، وهكذا تباعا حتى وصلتنا تلك النصوص...التي آن الاوان لأن يتم تحليلها بأسلوب علمي يضمن لنا استنباط جوهرها الإلهي وتحاشي ظاهرها البشري...
______________________________
(1) العلاقة الديالكتيكية، او العلاقة الجدلية، هي العلاقة بين امرين يتبادلان ادوار المؤثر والمؤثر عليه، حيث لا علاقة سببية مباشرة بينهما.


 ،

قبيل منتهى القرن الرابع عشر، شرعت الطبقة الوسطى الاوروبية في مناهضة الثيوقراطية الكنسية التي اطبقت السيطرة على كل منافذ السلطة، وبلغت سطوتها الروحية شأوا بعيدا، فنتجت عن هذه الحركة المقاومة للكنيسة انجازات متعددة في كل المناح لا سيما منحى الفلسفة المادية التي سعت نحو الانسان (بدلا من السعي نحو الميتافيزيقا، السمة الرئيسية لفلسفة القرون الوسطى) (1). ومن المعلوم ان الاوروبيين استجلبوا-في هذه الآونة-الكثير من المنجزات الاسلامية-الادبية والفكرية-التي ساهمت بشكل هائل في اسراع حركة النهوض، لأنها منحت دعاة النهضة قدرة عقلية على تحطيم اغلال الفكر الديني التي طالما عرقلت خروجهم عما ألفوه في عصور الظلام. هذا الاستيراد لم يتم في صورة نقلية سمتيه، فلم يكتفي ادباء وفناني وفلاسفة فلورنسا(2) بترجمة الواردات الشرقية إلى لغتهم، بل قاموا بتوليفها مع ادراكهم الغربي، الذي شعر بالغربة تجاه عبارات ابن رشد(3) وبالحنين تجاه امجاد العصر الهيليني(4) الفلسفية والحضارية، فبحثوا مُجددا في موروثهم الثقافي-اليوناني والروماني-مُعتمدين في تحليلاتهم واستنتاجاتهم على الادوات العقلية التي اتاحتها لهم الفلسفة الاسلامية. لهذا يُسمى عصر النهضة بالـرينيسانس" (تسميته الافرنجية، Renaissance)، الكلمة المُشتقة عن الجذر اللاتيني renasci(5)، ومعناه: اعادة الولادة، او اعادة التكوين، او بالأحرى ... "اعادة القراءة"، ففصل اعادة احياء التراث يُعد الفصل الاكثر اهمية في عصر النهضة، والرجاء ان يُحاكيه في الأهمية مشروع اعادة احياء الاسلام...
_________________________________
(1) هناك مبحث مُختصر ورائع بخصوص عصر النهضة في الفصل السادس عشر من رواية عالم صوفي لـ جوستاين غاردر.
(2) فلورنسا، مدينة في الجزء الشمالي من وسط إيطاليا، كانت أولى المُدن الأوروبية التي اسهمت في عصر النهضة.
(3) ابو الوليد ابن رُشد، فيلسوف اندلسي مُسلم، عاصر دولة الموحدين (القرن السادس الهجري)، تُعتبر مؤلفاته عنصرا اساسيا ساعد على اندلاع الفكر العلماني في اوروبا، وخصوصا كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال الذي دعم الدعوة لفصل الكنيسة عن الدولة بالبرهان الذهني.
(4) العصر الهيليني (يُطلق عليه ايضا اسم الحقبة الكلاسيكية)، القرن الرابع قبل الميلاد، عصر تميزت فيه الفلسفة اليونانية وسادت العالم، ولقد كانت حركات اوروبا تجاه التقدم بمثابة محاولة لاستعادة امجاد ذلك الزمان.
(5) انظر اصل كلمة رينيسانس في ايا من قواميس الايتومولوجيا Etymology.

 ،

بقي شيء...

بقي ان نشيد بهؤلاء المسلمين الذين لا يتاجرون بدينهم، الذين يوقنون بطبيعتهم البشرية ويعلمون حق العلم انهم لا يمتلكون الحقيقة المطلقة، الذين يتواضعون بحق امام الجماهير، فلا يخادعونها بمكر دميم فيدلسوا عليها الحقائق متحججين بحجج واهنه كضعف عقول الجماهير او سذاجتها، او ان تنويرها خطأ جثيما!، فهؤلاء-الذين نشيد بهم-لم يلعبوا دور الوصي على الجموع الغفيرة عكس ما تفعل غالبية الجماعات الاسلامية. الزعامة التاريخية: في هذه الاشادة، لجماعة المعتزلة التي انسحقت في محاولة مبكرة لتنوير العقول الاسلامية قبيل نهاية القرن الثالث الهجري، ورؤوسها امثال واصل بن عطاء والجاحظ وغيرهم قد سبقوا العالم كله في التطلع إلى البحث النقدي في امور الدين والدنيا. والزعامة الروحية: فلرؤساء التصوف الذين ألهبوا ارواحنا شوقا وحبا تجاه الذات الالهية، وقدموا لنا نقله حقيقية في نظرتنا للخالق، على انه الحبيب لا الملك المتجبر العنيد. والزعامة الشعبية: تتمثل في هؤلاء التنويريين الذين ارسلهم الله لامتنا على رأس القرن العشرين، امثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد مصطفى المراغي وشيخ الأزهر الأسبق شلتوت وعبد العزيز جاوي ومحمد فريد وجدي وعلي عبد الرازق وغيرهم وغيرهم من الذين بثوا نفحات التعقل في اذهان جماهير الامة ومهدوا الطريق بحق لتلك الدراسة النقدية التي ننادي بها اليوم بغير تخوف او ذعر. اما الزعامة العقلانية: فلجماعتنا، جماعة المتحررين، التي بدأت صراعها العتيد مع الاصولية في الربع الاخير من القرن الماضي، والتي شرعت في تحويل الصراع الدائر مع الاصوليين إلى الدراسة النقدية العلمانية وتخلصت-اخيرا-من الدوران في دوائر التلوين والتلوين المضاد للتراث، فاستطاعت اخيرا ان تكشف بمرآة العقل النقدي والتحليل المنطقي عن زيف الدعاوى الاصولية وحماقتها، فرفعت الاصولية سيوفها ايذانا بالحرب التكفيرية-التي وصلت لحد الاغتيال-على رواد حركة التحرر، الذين ابوا-بدورهم-إلا استمرارا يؤمن جوهر الاسلام من شرور اعداؤه الحقيقيين، وحال هؤلاء الاصولييون بعنادهم كحال من نزلت فيهم الآية الكريمة: 

"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" (البقرة، 170)



      إنتهى


تعفن الإسلام، اعادة الإحياء (أ)


"لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ.... وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" (آل عمران، 181)
نزلت هذه الآية تنديدًا بفهم اليهود "الحرفي" للقول القرآني:                                                         
                                                  "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا" (البقرة، 245)


لم يعد هناك مجالًا للجدال حول تعفن الديانة الإسلامية(1)، إثر ركودها وجمودها على صورة الماضي وشبهه، و إثر اصرار المتحدثين باسمها على صب الحاضر في سبيكة الماضي، مظهريًا وقشريا فقط، دون حتى التعمق إلى جوهر الماضي وفحواه، بل بالوقوف عند سمته، لغته وازياءه، مسمياته وتشريعاته، الأمر الذي-إن استمر-سيكتب بخطوط عريضة كلمة النهاية في سيناريو الاسلام، وربما الايمان عموما، ذلك اننا نُقر بأن رُكنا قيمًا في منظومة الايمان التاريخية والعالمية هو دين الاسلام، وبفقدانه تتفكك بقية الاركان الإيمانية، سواء في ذلك الاديان الاخرى، أو فكرة انتشار الايمان في حد ذاتها. لكن الامل يحذونا تجاه اعادة احياء الاسلام من جديد، حتى يرتد إلى حالته الجوهرية الأولى، التي يتغنى بروعتها الاصوليين ودعاة التجمد، دون إدراك حقيقي بمغزاها. ذلك المغزى الذي هو غاية سعينا في عملية اعادة الإحياء، العملية التي يُرجى من جراءها ان يستعيد الدين مكانته الأصيلة ومكانه الاصلي. والظن يغلبنا بان هذا هو الطريق الاسرع على الاطلاق، تجاه تقدمية المسلمين-التي استعصى تحقيقها رغم كفاح استمر عدة قرون-، نظرًا لأن الاديان-عموما-تمتلك كما هائلًا وعريقًا من الوقود الشعوري لدى شعوبها، هذا بالإضافة لقيامها بدور المخزون الثقافي\الادراكي لمعظم الافراد في المجتمعات المتدينة. فلا حرج في الادعاء القائل بان مشاريع النهضة في هذه المجتمعات لا بُد ان تستند إلى الدين كمولد للطاقة المستهلكة في عملية "النهوض" وكمفتاحًا لحل الغاز الادراك والاستيعاب المجتمعية. الخلاف الجذري هنا ينحسر حول مادة الدين، خصوصا ان "الخلط" بين الدين والتدين (الفكر الديني) يُعد سمة اساسية من سمات المجتمعات المسلمة.


يستمد التدين (الفهم الديني) من الدين (النصوص، والشعور الجماعي) مشروعيته في صورة تدعيمات ثلاث اساسية: التدعيم الروحاني (علاقة الفرد باللاهوت) والتدعيم الاخلاقي (علاقة الفرد بالأفراد) والتدعيم التشريعي (علاقة المجتمع بالفرد). تسود على ساحات التدين المعاصرة-بل والتاريخية-منهجيات اصولية تقوم بإنشاء تصور للدين على انه وحده شامله. تدعي كل من الجماعات الاصولية-مثل السنة والشيعة، الارثودوكس والكاثوليك، السلفيين والاشاعرة، الجهاديين والوسطيين-انها هي المُمثل الوحيد لهذه الوحدة الدينية، مُهدرين بذلك "الواقع النسبي" الذي يتمثل-بأدنى تقدير-في الفارق المهول بين تدين كل جماعة والاخرى. بهذا الخلط بين تدين الجماعة (فهمها للدين) والدين نفسه، تنجرف كل الجماعات الاصولية إلى هوة الحديث باسم الله، ففي عصور الظلام لعبت كنائس الكاثوليك هذا الدور، وفي الزمن الراهن يؤدي الدور ذاته مشايخ الوهابية ووعاظ الازهر ومن على شاكلتهم.

يهُمُنا الآن ان نشير لأن استحواذ التيارات الاصولية على النصيب الاكبر من الاتباع والابواق الاعلامية ومراكز السلطة-التنفيذية والروحية-على مر التاريخ، لا يوفر لها حصانة من النزاع، ولا يُمكن ان يُتصور انه-الاستحواذ-يحسم النزاع حول مادة الدين لصالح الاصولية: ذلك ان ترشيح النفوذ الاصولي للصدارة قد تم بواسطة عوامل سياسية واجتماعية شتى(2)، إذا فالأمر ليس عملية ترشيح هيجلية(3) نستدل منها على رجاحة المُرَشح المُتصدر.

يتصدى الفهم النسبي للدين لفخ احادية الفكر الذي تروج له الأصولية، مثلما يتصدى للجمود الديني الذي يحكم المجتمع بسياج الرجعية والتخلف. فهو يفتح الباب لاستيعاب حقيقة تعدد الافهام لمادة الدين من ناحية، ومن ناحية اخرى تجده يُلزم منتهجيه بتطوير وتجديد الفهم الديني في عمليه دؤوبة مستمرة، نُطلق عليها اسم "اعادة الاحياء". ولعل تصور الغالبية من المسلمين تجاه العبودية يُعد مثالًا "طريفًا" على نسبية التفهم الديني: فالعبودية التي أحلها الاسلام في نصوصه، واباح في جانب مركزي منها مناكحة ملك اليمين، يُبرر الاصوليون-المتطرفون والوسطيون-للإسلام هذا الموقف بحكم انه مهد للقضاء عليها! تجد المشايخ يحللون بعقلانية "غير معتادة"، كيف اضطُر الاسلام إلى اقرار العبودية وكيف ساهم-في الوقت ذاته-في الحد منها حينما أرغم السيد على احترام حقوق عبيده، وهذا الاقرار الاضطراري-برأيهم-يُدلل على واقعية الاسلام، فهو ابن بيئته الذي يأخذ ويرد عليها دون افراط في المثالية بعيدة المنال. والحق يُقال، إن هذا التصور النسبي الذي يُراعي المسافات الاجتماعية بين زمن البعثة النبوية والقرن الواحد والعشرين هو محل دعمنا، فنحن ندعو إلى تعميمه ليشمل كل النصوص الدينية، قرآنا وسنة وفقه وغيره!، وليشمل كل النسبيات المعروفة، من زمان مختلف ومكان مختلف، واسس حضارية مختلفة، بل وإدراك فردي مختلف (يتجلى بوضوح-كما أسلفنا-في تعدد الجماعات الاصولية وتناقض افكارها مع بعضها البعض).

الطريف هنا-في مسألة العبودية-ان الاصوليين يناقضون أنفسهم ويعارضون طرحهم النسبي ذلك(4) حين يقابلون بالرفض اي محاولة لتعميمه، فهم على سبيل المثال يستنكرون-والبعض منهم يُكفر-كل نظريات الحكم المعاصرة-من ديمقراطية وشيوعية وخلافُه-ولا يثبتون سوى الاحتكام للشريعة كالنظرية الوحيدة "الحلال" في ادارة شئون الامة، بالرغم من كون احكام الشريعة مجرد مجموعة من الدوال-العقلية والدينية-في مجريات زمان السلف الصالح. لكنهم يُصرون على صلاحيتها-دون مراجعة-لكل الازمان، كأنما تمت لهم معجزة نسف وسحق كل المسافات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين زماننا وزمان هذا السلف.



هذا التناقض مع الذات-رغم طرافته-يبرهن على ذيوع الفكر التبريري بين اتباع ومشايخ الاسلام الاصولي الذين ربما انسجموا عنوة مع استقباح فكرة العبودية الذي شاع بالعالم كله، فأذاعوا بأبواقهم تبريرات تعتمد بالأساس على تفهم نسبي هم يرفضونه في اي خصوص آخر. ولا عجب، فالركون لمثل هذا التناقض حال طبيعية لمن اعرض عن الوعي والتفكير متخيرًا الوعظ والتبرير.

إن النصوص الاسلامية حين تُحرم الخمر على ثلاث مراحل مراعاة للفجوة بين ارض الواقع(البيئة العربية اوان البعثة) والغرض التنموي(تحريم الخمور)، انها-بهذا التدرج-تمارس دربا من التفهم النسبي الضروري لتجنب الارتطام بارض الواقع، خلاف ما يحدث لكثير من الجماعات الاصولية-ومثلما هو متوقع حدوثه مع الجماعة الاصولية "داعش"-الارتطام الذي تضطر معه الجماعة للتخلي عن جزء كبير من اصوليتها مثل تعرضها لضغوط سياسية او مجتمعية عنيفة، فتضطر الجماعة حينئذ للاعتماد على منهجية براغماتية-نفعية-غير معلنه، تخدم في الخفاء ايديولوجيات ذوي النفوذ السياسي (مثلما الحال مع مؤسسة الازهر) او ايديولوجيات الدعاة والوعاظ (كما تفعل الجماعات السلفية). تأتي بعد ذلك منهجية التبرير كعملية "تلصيم" بين البراغماتية الغير معلنة والأصولية المعلنة-كما ابنا في قضية العبيد-، والنتيجة الحتمية لمجموع السيناريوهات المطروحة هو ان تخرج افكار الجماعة للعالم في صورة مكون حضاري ذو جوهر مختل متناقض اشبه ما يكون بلحم الجنين المتفسخ، لكنه يُحقق رضا وغبون جماهيري واسع، فقط لانه يركن-بغير وجه حق-إلى الشعور الديني الجماعي لدى الجماهير، حين يشوش على المساحة الفاصلة بين الدين وبين انتاجه الفكري او بعبارة اخرى بين اصوليته المدعاة وبين نفعيته المُنتهجة.
___________________________________
(1)ناقشنا في تدوينة تعفن الإسلام مُسببات ومُقتضيات هذا التعفُن بتفصيل حسن.
(2) مثلما سيطر الفكر السلفي على المجتمع الاسلامي بعد وصول الخليفة المتوكل لسدة الحكم، الرجل الذي كان يُعادي رموز الدولة ذوي التوجه الاعتزالي والتوجه الشيعي (راجع ما حكاه عنه السيوطي، في "تاريخ الخلفاء" صفحة 346)، فكان هذا المتوكل سببًا في اضمحلال هذين التوجهين و"ترشيح" الفكر السلفي ترشيحا سياسيًا لا عقلانيا.
(3) جورج فيلهم فريدريش هيجل، رائد الفلسفة المثالية في المانيا، قدم نموذجا معياريًا لتطور الفكر البشري عبر التاريخ.
(4) الراجح عندنا ان هذا الطرح المُتَعقل قد تم تصديرُه للأصوليين من قِبَل التنويريين في مطلع القرن العشرين، حينما انطلقت الشرارة العالمية لمحاربة العبودية، وحينما كانت الغلبة المجتمعية للتنويرين.

 ،

ان الوعي المجتمعي في حاجة مُلحة ومستمرة لان يركن إلى مجموعة من الثوابت والاعراف الاخلاقية\الدينية\الوطنية حتى يتوفر للأفراد معايير رئيسة يؤسسون عليها استحسانهم او استقباحهم للأمور. هذه الثوابت-في الواقع-يتم انتقائها من بين مجموعة المبادئ والقيم المختلفة والمتنوعة، والتي لا يُمكن وصفها بالثبوت، بحُكم ان كُل شيء متغير. لكن المجموعة الجزئية التي تسمى بالثوابت لدى مجتمع ما، تتسم بصفة التوافق والمسايرة لخصائص هذا المجتمع بالذات-كحالته التاريخية مثلا-، فهذه الثوابت تسير بسرعة نسبية ضئيلة بالنسبة للعربة التي يتنقل عليها المجتمع. لذا فهذه المجموعة من القيم، "بالنسبة" لهذا المجتمع ثابته تقريبا. فمن ثم، يُمكن الجزم بان التعامل مع ثوابت مجتمع ما على انها مُطلقة وأنها ثابته في ذاتها، يُعد من باب التطاول على القوانين الحاكمة للكون، التي تُفيد بديمومة الحركة واستحالة السكون. قد يبدو هذا الادعاء كأنما هو دعوة للتخلي عن الثوابت واقصاؤها، لكن الدعوة الحقيقية هنا، هي دعوة إلى الالمام بالماهية الكامنة "للثوابت"، حتى نتمكن من التعامل الايجابي بها ومعها. فمن يُقر مثلا بان الاوراق النقدية ليست نقودا حقيقية(مُطلقة) بل هي محض احتيال مجتمعي لتسهيل الاجراء التجاري والاقتصادي، لا يُنكر بالضرورة اهمية البنكنوت، واقراره هذا لا يُمثل انقلابا عليها.

ومعاودة لحديثنا عن الثوابت المجتمعية، ندعي اننا-افراد المجتمع-كذلك مُلزمين بمُراجعتها لكي نتبين من "ثبوتها"، تجنبا للخطر المداهم الذي ينتج عن الركون لمبادئ وقيم تتحرك بسرعة تتباين عن سرعة عربتنا المجتمعية، فحينئذٍ سنُستهلك في محاولات مواكبة عوالم غير عالمنا: كمسايرتنا العمياء مثلا للغرب، او كاجتهادات البعض منا في محاكاة الماضي البعيد بُحجة اتباع منهج السلف الصالح.

حالة التشكيك في الثوابت الوطنية والقومية التي ذاعت بعيد ثورات الربيع العربي، تَدُل على رجاحة الدعوة إلى اعادة تقييم الاعراف والثوابت. فكنتيجة لانكشاف زيف الدعاوى الوطنية التي تخلط بين الوطن والدولة القائمة على حُكمه، اعاد الكثيرون من العرب النظر في وطنيتهم، وبالرغم من ان عملية المراجعة تمت بشكل غير مُتزن ادى بالبعض مثلا إلى اهدار قيمة المواطنة-فحال هؤلاء في التطرف كحال من يدعون لتهميش الاسلام كردة فعل على من يدعون لأسلمة الفنون والآداب-، إلا انها-مراجعة الدعاوي الوطنية-تُمثل بوضوح حالة الركون إلى مُتحرك باعتباره ثابت، وما ينتج عنها من آثار سلبية.


 كذلك تحتاج الاعراف الدينية لمراجعات ضرورية، تضمن مُطابقة التدين المُعاصر للجوهر الاصيل للدين، من خلال تعديل "صورة" الاحكام الدينية لتُساير الركب الحديث مع الابقاء على جوهرها، فالجوهر هو الاتجاه الذي خطا الاسلام اليه في زمان الوحي، اما صورة الاحكام الواردة في النصوص الدينية فهي بمثابة اخر خطواته، ولعله من السهل لكل ملاحظ ان يكتشف ان البشرية قد سرت اميالا طويلة بعد زمان الوحي، لذا يجوز الادعاء بأن من يُبقي على الاحكام في صورتها النصية، هو المخالف الحقيقي للشرع الاسلامي، فهو يسير تماما في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي خطا إليه الوحي. ومثالًا على ذلك ما فُرض بنص القرآن من حدود لجلد الزناة وشاربي الخمر-الذين انفضح امرهم-، وحدود لرجم المفسدين في الارض: فهذه الاحكام النصية تستتر وراءها الدعوة الى عقاب المخطئ المُعلِن عن خطأه وكذلك الداعي لممارسة الخطأ، كجوهر إسلامي صريح. وحين نرغب في مُحاكاة هذا الجوهر، علينا وقتئذ ان نُعيد تقييم المُخطئ والداعي للخطأ بمعايير وثوابت اليوم (فعلى سبيل الجدل ربما توجد حالة مجتمعية خاصة لا يُخطَّأ فيها شارب الخمر)، وكذلك يجب علينا ان نتجنب فخ الالتزام الحرفي بصورة العقاب (فالجلد والرجم والصلب ليسوا سوى ادوات عقاب تنتمي إلى زمن الوحي).

      يُتبع