الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

حُلم يُعتد به كنبوءه



-أنا لا اعرف شيئا... انا فقط خرقة باليه... لماذا تحيطينني بهذا الاهتمام وتصغين إلي هكذا كأن ما سأقوله شيئا ذا قيمة!

-لا يهم... فقط تحدث... وسأظل هكذا اقطع الغرفه ايابا وذهابا وانا انصت إليك... وابتسم كلما اعجبني ما تقول... هيا تحدث.

-رجل عريض المنكبين متكئ في فراشه، محموم... لانه مصاب بثمة جرح خطير، لانه محارب. تجوب غرفته امرأة، تحبه وتنصت إليه وهو يتحدث إليها عن العديد من الذكريات... اووه... اتعرفين كم مرة صغت المشهد ذاته في كتاباتي؟

-اعرف... لان هذا هو أول حلم حلمته في طفولتك... وانت تعتقد ان هذا الحلم نبوءه... حتى قبلتي التي سننهي بها المشهد... ودموعي المالحة التي ستنسال إلى جوفك، تلك التي ستلعقها من على خدي... كل هذا انت تنتظر تحققه...

-اووه... نعم... تماما كما تقولين... انني اعلم في قرارة نفسي... مثلما يؤمن قس بالله... ان هذا اليوم الذي اكتب عنه كثيرا سيتحقق في نهاية المطاف... نعم... قطعا ساتذوق دموع عشيقتي المالحه وانا على فراش الموت.

-ها انت ذا تذكر الموت فتهيج مشاعري وتدفعني للبكاء!

-لا لا ارجوكي.. ليس الآن... فهناك الكثير والكثير مم اود ان اقصه عليك قبل ان تبدأي في البكاء فاموت...

-حسنا... لكن لا تسرف في العاطفه... فانا كما تعلم... شديدة التأثر...

-اذن دعيني ابدأ على الفور... بذكرى المنزل البدائي في تلك المدينة الساحليه. لقد زرت المنزل ذاته منذ مده قصيرة مع اصدقائي. حين وقعت عيني على الباب شعرت بالحنين إلى الطلاء الداكن المختلط بالصدأ. فتحت الباب ومررت من الفناء المغطى بالسقف الحديدي الصدئ ايضا... كل شئ كما هو، والغريب ان عيناي لم تستغربا المشهد بل ألفتاه. اقول انني من كثر ما قضيت من ايام طويله في هذا البيت الصغير فقد صار جزءا مني احمله معي إلى كل مكان... لذا لم يكن هناك استغراب بل الفه شديده بيني وبين كل جزء من الاثاث... واللوحات ايضا المعلقه على الجدران البيضاء... تلك الزهريه المرسومة بالرصاص لكنها رغم ذلك تبدو حقيقيه... ولوحة سورة الرحمن المعلقه على الجدار المقابل للجدار الذي يحمل الزهريه... ودت ان ابقى فقط لاتامل واتذكر... لكن صديقاي كانا على عجل. فدرت وهرولت إلى الخارج... فمررت إلى جانب "المنشر"... ثمة احبال بلاستيكيه تمتد بين سيخين حديديين يخرجان من حائط الفناء... عادة ماكنا نفرد الملابس المبلله على تلك الاحبال حتى تجف... وكانت تقطر ماء باستمرار. فكانت قطرات الماء في طفولتي البعيده تبلل ملابسي إذا مررت بالقرب من هذا المنشر... اما اليوم وانا امر بجوار المنشر الجاف، الذي لا توجد عليه ملابس مبلله تقطر الماء... فقد انتابني شعور البلل ذاته... فاذا انا افزع ثم ابتسم واتعجب... يالروعة الانسانيه... ان الامر تماما مثل حلم!

اعذريني، لكنني لن اتوقف هنا عن القص... ساستمر، ساحكي لكي عن الحافله... حافلة الجامعه، التي ظلت تقلني يوميا إلى البيت وانا في غاية الاجهاد... ارتادها من الجراج الضخم الذي يعج بالحافلات المماثلة تماما... اجلس على مقعدها الضيق، ثم الصق سماعتي الاذن إلى اذناي، فتدفق الموسيقى فورا، واميل برأسي إلى النافذه.. اعدل الستارة بحيث تحميني من وبال الشمس وبحيث احفظ لنفسي في الوقت نفسه متسع اراقب منه الطريق... والصحراء والجبال.... ان هذه تسلية طيبه جدا... ان تطرق إلى الطريق... وانت تنصت للموسيقى... فترى الالحان تمتزج مع الاسفلت الساخن... ثم تذوب في الوسن... ثم لا يؤرقك إلا رجات الحافله تهدئ او تُسرع. فتلتفت إلى الداخل لترى فتيات وشبان يتبادلن حديثا طويلا عن المحاضرات والامتحانات... فتتذكر ايامك... حين كنت بدورك طالبا ترتاد حافله مماثله تقتادك إلى جامعتك انت... وسط اصدقاءك انت... الذين صاروا رموزا ساطعه في حياتك رغم انفك... رغم انك تكره الاصدقاء... إلا ان الحياة نجحت في ان تجبرك على تقدير عددا منهم... فقط لان زمنا طويلا مر على تعرفك إليهم.

لدي ايضا ما اود ان اقوله عن ذلك العام الحافل... الثورة والحب في عام واحد... ولسان الموت الذي التهم ذلك الخال... حرارة شديده تفوح من الرقم "حداشر" فقط لأنه يشير إلى تلك الاحداث الهائله... انني بدات في هذا العام منحلا تماما... وشغفت بالعشق... وتذوقت لذته الحارقة... وكتبت الشعر... ثم اشتركت بحمية الشباب في تلك التحركات والانتفاضات... انظر من بعيد فارى قالب الطوب يشق جرحا في يدي وانا اقذفه على تلك العربة السوداء... فتتخلل انفي رائحة الحريق ممزوجة بالدم... انظر من بعيد فاجدني مبهوتا عند المستشفى الخصوصي، فقد اعلمت بوفاة رجل اعرفه، وتلك كانت المرة الأولى... والشك... لا بد ان اؤكد انني اشك في كل شئ منذ ذلك الحين... لكنني حينئذ لم اكن قد تبينت ان الاجابات التي رضعناها في طفولتنا لم تكن متسقة بما يكفي لنرددها... وهذا لا يهم، فالمهم ان قلبي ينشرح كلما اتيت على تذكر برائتي... على تذكر سذاجتي في ترديد الاجابات المحفوظة... وعنادي المستعر في سبيل اثبات صحتها...

ثم الطابور في قلب الصحراء وسط الظهيرة.... وصيحات الشاويش المصحوبه برذاذ له رائحة البصل... وسباب الام والاهل الذي لا ينقطع... ونظرة الشفقة التي تحاصرني اذ احكي لرفاقي اي شئ مما يجري وسط المدرعات خلف الاسلاك الشائكة... وروايات هذا الكاتب الروسي الرائع...

-هل ابكي الآن؟

-كيف تسألينني؟ يُفترض بك ان تبك وقتما تشعرين بالحاجة لذلك...

-انا دائما اود ان ابكي لاني انظر إليك... انا ارى جروحك بعيني... انا ارى كم تتألم من الحضارة والنظام وارى كونك جزءا لا يتجزأ من النظام... ارى ميولك لليسار... وارى سعيك لجني المال... وارى كيف تعامل النادل بتكبر لانه من طبقة اقل شأنا من طبقتك... وما يدفعني للبكاء هو انني اشعر بتلك النار التي تختلج في صدرك فتجعلك تنطق وتهتاج وتسب وتكتب... لعنتي انني احس بألمك... وهو عظيم... ولعنتي انني اذوق مرارة حلقك... وهي لاذعه... تُذيب الاحجار... ولعنتي انني اشم عرقك المتعفن من منبته... هل استمر في سرد هذا ام نكتفي؟

-لماذا تسألينني؟ كفي عن هذا... اعرف انني الكاتب وانني اتحكم في كل شئ هنا... على الاقل حسبما تعتقدين... لكن الحقيقة غير ذلك... انني اكتب... احرك القلم بحيث يحتك بالورق بشكل معين ينتج حروفا وكلمات.. لكن هذا لا يفيد تماما إلى انني متحكم في الامر... الكتاب جميعا يعرفون هذا يا عزيزتي... اننا ننصاع في كتابتنا انصياعا والحق اننا لا ندري ما الذي نكتبه...

-هب ان هذا هو الامر... فانا هنا اسأل ما يحركك ولا اسألك انت... انا اسأل الوحي الذي يندفع في عروقك عن الحركة التاليه... لاني متعجله جدا لاداء المشهد... فانا اتحرق منذ السطر الأول إلى البكاء... ولا يمنعني إلا انني اريد ان البي اوامرك....

-اذن... فلتبك ولنبك جميعا... على ويلتنا قبل اي شئ... على حقيقتنا العارية.... على التعارض الرهيب بين فكرتنا وماهيتنا... على الندم والحسرة والوساوس التي لا تنقطع من رؤسنا... على عجزنا الوجودي...

-ااه... هل ارتمي إلى احضانك الآن؟

-تعالي يا عزيزتي... هيا ان دموعك تنهمر بوفرة.. وهذا يحقق النبوءه... هيا... هلا قبلتيني يا عزيزتي...

-تماما... ساقبلك حين تمر دموعي السخيه الحارقة على شفتاي... لتتذوق الملح كما هو مقدر.


-ثم اموت... وتنزاح عني قسوة الألم وكل شئ...

الثلاثاء، 26 يوليو 2016

ضيق شديد واختناق


ما كل هذا الضيق الذي يطبق صدري. لماذا خوى صدري من الانفاس. لماذا احتجز كل شئ ولم يبقى سوى الاختناق؟ المساحات الواسعه، المبهجه، صارت ضيقة اشد الضيق. اذرع الغرفه فلا احس إلا كانني مكبل، موثوق إلى قاع بئر من الهم واليأس، لا يُتاح لي فيه حراك، لشدة ما يضيق على المرء. كان، كأن كل شئ صار مكتوما فجأة. آذان الفجر الذي يرن في الفضاء، لم يعد له صدى. لم تتردد اصداء لهذا الصوت، على الاقل هذا ما شعرت به، لان هناك كبت رهيب. لان الفضاء تقلص ثماما وصار نتفة. نتفة تحاصرني وتضيق بي. فانا الان مكتوف ومكبل. يدياي مغلولتان. ورأسي مقموح. وعيناي مصموغتان، فلا حتى اتيح لهما ان ترمشان. بل كل شئ في ثبات، رغم حاجتي للحركة وشوقي اليها. رغم اني اضغط على صدري بكلتا يدياي عسى ان تنطلق الانفاس وتعود الحرارة للعالم، والاصباغ للمواد فتتلون. لكنها امانيي بعيده وسط هذا الخناق واليأس. فالكل هنا ساكن. قلبي ساكن ونبضي ساكن والعالم في توقف. حتى العقرب الممل الذي يدق. عقرب الساعة لا يدق. والغبار لا يُثار. والماء لا ينسكب من الاناء. والزجاج لا يتحطم وان ضُرب بمطرقة الفولاذ. وراسي جفاف وقحط.

كنت قد كتبت منذ ساعتين:
اننا بحاجة إلى شئ مستقل وجديد. بحاجة إلى طاحونة تدهس الامور جميعها فتسويها سواسية مطلقة. يكون الخير كالشر والفوز كالخسارة. حسنها يباح لنا ان ننام في سلام. لان السلام ينبعث من المساواة لا بين الخلق بل لين الخيارات المتاحة. وانت ان علمت انك اذا ما صيرت اليوم مخترعا فذا وتصدرت صورتك كل الامكنه، واقول وان صرت انت منقذ وملهم البشر من حولك بحق. هنا تذكر اني لا افترض ان يكون هذا اعتقدك بخصوص نفسك وحسب، لا بل اؤكد على ان افتراضي هنا يشمل ان تكون تلك الحقيقة، اي ان تكون انت المرء الذي افلتت منه عبارة او عبارتين انقذا العالم، وحفظا البشرية من الضياع. فمفاجئتي لك، ان وسواسك لن يترك حتى حينئذ. حتى حين تعتلي الجبال وتصير ملكا، او تعتلي النساء وتصير ايا ما تصير. سيبقى في راسك هذا الاكلان الذي لا تطفيه الحكة. ستبقى مشغول الفؤاد ومقهور الحال. سيبقى في وحدتك الف صوت يدب في راسك بحديث انت في غنى عنه، لان هذه هي الانسانيه. لان هذا الاضطراب وهذه النار التي تضرم في دماغك، وهذه المشاورات والسجالات الطويله التي تفني فيها لياليك، هذه الآراء والسرات والصيحات والبكاء الطويل الذي يستهلكك حتى يطلع عليك النهار. هذا كله هو انت. هذا منبته ذاتك وتركيبتك، عجينتك التي عُجنت منها تستجلب لك تلك الهموم الثقال. ولا علاقة للامر بحالتك، بمسكنك الضيق ولا بزوجتك القبيحه، ولا بوظيفتك التي خسرت. ان هذه الامور لا تعدو ان تكون تسويغا للنحيب الدائر في راسك، لكن الحقيقة القائمة على رؤوس الاشهاد، ان وسواسك قائم ما حييت. ان وسواسك لن ينطفئ إلا بتهشيم موطنه، اي بتهشيم راسك. حتى ينصرف عنها اللبس المرعب. حتى تذوب النبضات الكهربيه التي تاكل ساعات نومك فتؤرقك.


لكن عجبي الان وحيرتي: ما كل هذه الحرارة؟! انى لي... انني الان اتجمد من البرد القارس. ان عظمي يذوب من البرودة التي تاكله. ان لحمي ودمي يتجمدان، وها هما ذا ينقشان في العظم. فيئن العظم، الالواح والكتف. كل عظمي يئن لان الواح الثلج تزاحمه صلبة متينه، وكذلك حادة.

ومما كتبت من ذينك الساعتين كذا ان:
ان الكلمة حجام لما في النفس. انها تلجيم لكل شعور يبطنه الانسان. فما ان نطق حتى كُبت المعنى في قلبه وباح بظاهر المقال إلى الآخرين. كان المشاعر ثمرة، تُعصر عصرا فيخرج القول، الذي لا يكون كالثمرة. فلا بذرة فيه، اي لا امل. فلن يكون من بعد القول اي نتاج. من بعد النطق بالاحرف والنغمات والتقسيم والتنغيم ودوزنة اوتار الحنجرة. كل هذا لا ينتج سوى عصير. وهذا العصير لا يُنبت شيئ، قد يُشرب وقد يُستساغ لدى مستمع، لكنه لا يُحرك قلبولا يثير فضول، كما قد تفعل عاطفه. كما قد تفعل لمسة يد او نظرة
.

لذا نتالم. بلا اي مبالغة، لذا نتالم. فما المنا إلا كبت. وللكبت اشكال. اقساها ان نقول ما لا يفيد بما يجول في خواطرنا. فما يجول في الخاطر مُحال ان ينطق به. لان اللغه صنعه وحرفه، والعاطفة طاقة تفتك بالعروق والانسجه فتذيبها ولا يبقى منها إلا الجماد. فنظل نشتكي ونبكي ويتعالى النحيب. لان النحيب وحده اصدق الفي مرة من كل الكلام. لانه بديهي وفطري. وبسيط. بخلاف الكلام المرتب والمنمق. الفاسد.



الأحد، 19 يونيو 2016

ثمة رسالة اخرى





بما انك كتبتي وانت تحت تاثير بعض الادوية، ف انا هكتب وانا مش نايم كويس... عشان المحتويات تبقى متناسقه مع بعض.

معاكي حق يا هاجر، الانسانية اغلى من الايمان. والحاضر اغلى من المستقبل. والمصيبه اننا مهما حققنا آمال في المستقبل مش هنرضى برده. هنيجي في اللحظة اللي يتحققلنا فيها حلمنا ونحتقر الحلم ونتهكم عليه. ونندم. ده لو الحلم اتحقق اصلا.
العالم مش بس مش منطقي، لا ده المنطق نفسه مش منطقي: يعني احنا لا نملك تاكيد ان المنطق نفسه سليم... احنا في الاول والاخر بنكشف عليه بعقولنا. ف مفيش مجال اننا نجزم بانه منطقي.

جبال وتلال من المتغيرات و"التناقضات" مش بس في نفوسنا، لا كمان في الماده اللي محاصرانا...

حاولت انتحر. ولما فشلت، رجعت حطيت معايير وضوابط للعيشه التي بلا معنى ولا هدف. للتحرك في اقل حيز ممكن من الفراغ. توفيرا للفراغ. وتوفيرا للطاقه التي اهدرت على منصة الانتحار.
زمان الانبيا لما كان الكفار يسألوهم عايزين منا ايه، كانو يفحموهم بالرد  اللي في القرآن: لا اسألكم عليه من اجر، ان اجري إلا على الله. دلوقتي بعد ما الزمن جار على الايمان، وبقى منهج الاقليه، بقى الملحدين يبشروا المؤمنين... بس الحقيقة ان المرادي مفيش رد جاهز على "عايزين مننا ايه"
انا شخصيا، زي الاطفال، زي الطفل، عندي شغف بالحرية. الحرية والعدل. نفسي اشوف كل اسير بكسر قضبان سجنه. بيطلع يجري. وبيتعثر في جريه. لان ديه المرة الأولى. ف يبكي ويصرخ ويحلم بالقيود والقضبان من تاني. ساعتها يبقى اختياره. لو رجع وحط ايده في الكلابشات من جديد. بس انا رهاني ان ده مستحيل. اللي بيدوق الحرية مستحيل يفرط فيها. حتى لو عجزته وارهقته. حتى لو مكنش حلو، ومكنش معاه فلوس، ومكنش قوي.
الحرية ديه لو مكنتش حلوة وتستاهل، مكنتش النخب اختصت بيها نفسها. كنت هتلاقي النخبه تقولك لا خلي الفقرا هم اللي يبقوا احرار، احنا نمشي بالنظام والقوانين والدين. انما ديه ميزة مقتصرة على نسب محدودة من المجتمع.

ف بما اني طفل، وعنده هوس بالحريه، ف الطفل ده نفسه يشوف العالم بره السور. ومعندوش مشكله في تمرد ودم. واكتئاب. ومحاولات انتحار. بس ييجي اليوم اللي نشرب فيه كاس الفودكا من غير وغز الضمير. من غير احساس بالذنب.
الحلم مش تفاؤل. الحركة مش يقين بالوصول. الحلم ده تشكيل للدافع. والهدف هو طلاء كون غامض مكتوم بما يتواءم. المتدين لما بيقابل معضله فقهيه، بيدور على الشيخ اللي يقوله كلام يمشي على مزاجه. شوفتي مزاجه ده؟ هو ده الهدف. مزاجنا. طالما العالم غير مفهوم. يبقى نفهمه بمزاجنا. ونوصل منه على الاحلام اللي شوقنا ياخدنا ليها... هذا وحسب.

وانا هنا لا انازعك في حقيقة من الحقائق. كل ما في الامر: ان صورة الاله تزعجني في عالمك.... قد نقضي الف ليله سويا، نتحاكى عن الله، عن تصوراتنا الفلسفيه، وقدراته الخاصه، وميزاته الغير محدوده. ثم حين تنزل بنا نازلة، وندخل المحراب، ونسجد، نسجد لـ بابا. صورة الاب الاثرية المطبوعة في ذهن الطفل. على انه كائن مقتدر، يحمي ويُطعم ويوفر الدفئ. (هل لاحظتي من قبل، الشبه اللغوي بين الأب والرب؟).
انها سلبيه مفرطة. تلك التي تدفعنا للسجود امام مقتدر عليم. مالنا لا نواجه. مالنا لا نعترف بخيباتنا ثم نتحرك. مالنا لا نتخلص من اسر الطفولة حتى نصير بالغين. مالنا لا نندفع في ترويض العالم؟
ألا تحزنك الفجوة الشاسعه بين الشرق والغرب؟ اتعرفين ما المفتاح؟ الماديه واهدار البعد العاطفي (الطفولي) في الاشياء. (قد نستطرد فيما بعد في البحث وراء جدية هذا الجواب...)

على كل، رغم انني اجد صعوبه بالغه في تصديق ما اقول: لكن هناك ضفه اخرى وراء البحر... اذا سبحنا، وتلطمنا يمينا ويسارا وفي كل الاتجاهات، قد يردنا "العود الابدي" إلى نفس الضفه التي انطلقنا منها... خصوصا اذا اتبعنا سير العواطف والايمان، الذي "حشر" اوروبا بالكامل في قرون الظلام لعدة قرون... اما اذا سبحنا وتلطمنا كذلك، لكن بعقل حسي نقدي. يتفانى في التفنيد. فسنبلغ (اكرر انه من الصعب ايضا ان اصدق ما اقول) الضفه المقابله. سنقابل الملكوت. ملكوت الدنيا. سنتحكم في المادة والاشياء. ونصير احرارا وحسب.

انت صاحبة الشأن في ايمانك، وبخجل شديد، ادعوك اخيرا للتخلي عنه: لان الخسارة فادحة. وطاقاتك المهدورة على سجادة الصلاة يُمكن ان تُروض العالم. هذا، واؤكد انني، برغم كوني طفلا يعشق التحرر (والحرية،) ارى الصورة الكبيرة التي تتحدثين عنها. وافهم تماما، ان الانسانيه لم ولن تقتصر على رب نعبد. وان مصيبتنا في هذا العالم مذهله ومرعبه. ويتوجب علينا مجابهة الوسواس الذي يسلخ رؤوسنا من الداخل. الوسواس المسمى نفس. اما ما بدر مني من تبشير ودعوة ساذجه، فلا تنظري إليه إلا بعين واحده. وراقبي بالعين الاخرى عناوين خطاباتنا، التي تدور حول الايمان.
ما اقصده دون اللف في سجاليات جافه (كعادتي) انني اكثر من الكلام عن الايمان والكفر برغم تفاهة القضية بشكل عام، مقارنة بقضية الانسان الحقيقية، انني اكثر من هذا الكلام فقط لان المحل محلها. لاننا اصلا نتجادل حول الايمان والكفر.

انا كذلك سعيد بمعرفتك، غير انني لا احاول تفسيرك، لانني لم افهم نفسي بعد، ولا يتبين لي ان من لم يفهم ما هو مطروح بين يديه قد يقوى على فهم ما هو قاص. 


دمتم، 

الأحد، 29 مايو 2016

وصلات لأهم الكتابات


أنت لا تكتب لانك تود ان تقول شيئا،
 لكنك تكتب لأن الكلمات تتفجر من رأسك وحسب.

كارثة غريبة في المسرح الملكيّ
محاولتي القصصية الأولى... قصة تتناول التداخل الغريب بين الواقع والخيال في اطار الاستيعاب العدمي للعالم.



تَحرُّر.. أم إسراف في الكلام عن عدم الاكتراث؟
صيحة تعقل تُنادي الملحد العربي. دعوه لان يغير ما اصابه من سكر وخمول اضاع عليه فرصته الحقيقيه في تحقيق امل هذا الوطن المنعقد على كتفيه.




لا تركض بالعمر، فثمّة فخّ في المنتصف
مابين القصة والقصة القصيرة، نص عن ازمة منتصف العمر التي تهدد مستقبل الشباب المشغول بمطاردة النجاح.



خطاب بخصوص النهلزم (العدميه، او الوجوديه) كنظرة للكون، وما يلازمها من أناركيه (فوضويه) كنظرة للمجتمع. 


مقال الكاتب الانجليزي جورج اورويل عن ماهية العلم الحقيقية، التي تتعمد النخب إلى اخفاءها عن الجماهير في صورة معادلات فيزيائية وكيميائية، بعيده كل البعد عن تلك الماهيه التي اضاءت حياة الانسان بعد قرون من الظلام.



لهؤلاء الشجعان الذين شرعوا للتو في قراءة كتاب ما لـ دوستويسكي أو اي روسي كئيب آخر، هنيئا، ولكن حذار.



مقال ساخر، يتناول المظاهر الهزليه للحياة العسكرية. 



كتاباتي كمحيض فتاه، تباغتني فجأة. اكون متربصا بانهيال سيل الكلمات عليّ. لكنه حينما تتخمر الفكرة في رأسي فيطرد جزء منها ككلمات تود لو سطرت، تتخدر اطرافي ولا اصير قادرا إلا على مواكبة السيل، اكتب دونما شعور مني بالوجود إلا كقلم يسطر الكلمات، إلا كأنني انا الكلمة التي تُكتب، لا كأنني كاتب متغطرس كما يبدو من بعيد.




التحرر الجنسي مدخل اساسي للتحرر الفكري والمادي، فلماذا ننكره؟



نص شعري... عن الموت.



تهمة التكفير، تهمه مرة لاذعه، تحجب االعقل وتُخيفه من التحرر والانطلاق. والحكايه هي هي لم تتغير منذ زمن البخاري إمام الحديث، وحتى زمننا. 



انما نحن، الجيل الصاعد من المصريين والعرب، لسنا سوى انعكاسات لذلك الربيع، لتلك الثورة التي "خلقتنا" من العدم. وفي هذا النص، احكي عن علاقتي الاسيانه بالثورة ودماءها.



الثلاثاء، 24 مايو 2016

خطاب بخصوص الأناركو-نهلزم.


الرفيقة هاجر/

تعرفين، انه حينما ستحل الاشتراكيه الاناركيه محل النظام الراسمالي العالمي، احادي القطب، المتوحش، تعرفين ان يومئذ، سينادي الجميع بعضهم البعض بـ"الرفيق"؟ ستختفي كلمة بيه وباشا. "حضرتك" و"سيدنا" و"صلعم"، القاب ستنمحي تماما من الآربان ديكشناري لذلك العصر، وتبقى في معاجم اللغه فقط، يقرأ عنها مدمنوا التاريخ المؤلم. نعم فحاضرنا هو تاريخهم المؤلم، هؤلاء الذين ورثوا العالم من بعد الثورة الكبيرة، العالميه. ومن بعد حرق المصاحف والسجلات وتحطيم كل الصلبان ودبابير الظباط.

الله قد مات، اعتذر لكي، فنحن الجيل العربي الاول الذي يعي تلك الحقيقة. مع ان جدنا، جدي وجدك، ابو العلاء، الذي سكن معرة النعمان، فسموه المعري، كان قد استوعب كامل الاستيعاب ان الله ميت، بل ومتحلل، تخيلي يا عزيزتي؟ ان الله في قبره مدفون، منذ قرون مضت...

انا احب ابو العلاء خصوصا، لانه دون فلاسفة القرن العشرين النهلستيين، جاء في زمان الصراع التافه والغريب حول خلق القرآن! فابدع! تأملي مثلا قوله: "اما الإله فأمرٌ لست مدركه... فاحذر لجيلك فوق الأرض إسخاطا."

دعنا من هذا كله، دعيني اؤكد لك، قبل اي شئ، ان الحريه ليست مخيفه إلى ذلك الحد... الحرية هي الانسانيه، الانسان قد يقتل، فيبقى انسانا، فيبقى كبقية الحيوانات التي تقتل لتاكل وتقتل لتحمي صغارها، لكن ويلة عصرنا، هي ان الانسان صار يُعذب، صار ساديا مقيتا، وصار كذلك مازوخيا، وهذا لانه مكبوت، ومحكوم...

لهذا، اعلمي، ان القيود وان بدت آمنه، تظل قيود... يقول سيوران: "لا تحبوا قيودكم وان امّنتكم على ارواحكم." واقول: "واكسروها وان سالت الدماء بكسرها..." لهذا مجد امل دنقل الشيطان الذي قال لا. هل تستوعبين الدرس؟  انها حكاية خبيثة، والظن ان الشرير الحقيقي هو من كتب تلك القصة عن ان الأبي المتمرد هو الملعون المطرود من الجنة! تخيلي معي ان مديرك في العمل، يأمرك بالسجود للموظفه الجديده التي "عينها" هو بذاته. اعرفك جيدا واعرف انك ستتمردين حينئذ، لكن إليكي المفاجأة: سيخز في نفسك بعض الالم بعد التمرد، سيؤدبك الضمير! وهذه هي اللعبه الرابحة التي لعبها مهندسوا الاديان، الكهنة والرهبان منذ آلاف السنين. استطيع ان ارى الكاهن الاصلع مرتديا اقمشته السوداء، يحكي بخبث إلى زميله، في ظل شموع مُضاءة باموال الفقراء، عن فكرة، ستحني رؤوس المحكومين للحكام أبد الدهر، عن قصة سيخترعونها، ويُنشئون الاطفال عليها، عن فكرة ستجعلنا نندم بعد كل تمرد، بعد كل صرخة للحق.

هل لاحظتي من قبل، ان الحسين، مولانا الشهيد، لا يُذكر ابدا، لا في السينما ولا في خطب المساجد! لان الكل يريدون يزيد، يريدون القاتل المسيطر ولا يحبذون ثائر كالحسين! لانهم خنازير، مبتذلون.

على كل، على كل حال، يعني في كل الاحول، (كما يغني زياد الرحباني الشيوعي في اغنيته "بما انو") علينا ان نتلقن الدرس جيدا، جيلنا بالتحديد، عليه ان يتحمل مسئولية. مسئولية الحرية واللاانتماء، لاننا اول من تسربت له تلك المعلومة، عبر الويب. فكل محاولات تنوير العقول في الساحة العربيه من قبل قد قوبلت بالرفض والعنف. قتلوهم يا عزيزتي كما قتلوا ابو العلاء وجاليليو.

وخلاصة ما كتبتي، انك تتنصلين من المسئولية، او تخافين منها، في حين ان ما يخيفني، وما اظن انه انكى بان يثير مخاوفك كذلك: هو الكذب والقمع الذي نعيش فيه. فكما يقول سيغموند فرويد: "من يترك المفتاح، لن يستطيع ابدا ان يفتح الباب". كيف نختار الظلام اذا؟ اتعرفين ما الذي جرى للمقيمين في كهف افلاطون، حين علموا ان ثمة اجسام ملونه في الخارج، لقد ركضوا، هربا من الظلال، وطمعا في الحياة والحيوية...

فلندفع ضريبة جيلنا كامله، حتى نسلم مفاتح قريتنا للجيل القادم واضحة، ليأتي الزمان الاخير، اليوتوبيا التي ستحرق الخنازير الذين يعيثون في كوكبنا فسادا.

نحن نقطتين، وامثالنا معنا نكون مجموعة ضئيلة من النقاط، امام هذا السواد والظلام العالمي المهيب. لكن اخبريني، لماذا لا نلعب دورنا؟ لماذا لا نكافح الفكرة، على الاقل في نفوسنا؟ نحن لا شئ وهذا معلوم، لكن كل شئ هنا لاشئ، فتعالي اذن ايها اللاشئ، تعالي نُصارع هذه اللاأشياء الاخرى حتى يبزغ الفجر على لاأشياء المستقبل.... الحياة غريبه ومضحكة، اليس كذلك؟

ملحوظة: احضري معك الكثير من الملابس الثقيلة ومعطف، فالجو هنا قارس البرودة. فالزنازين التي تعج بآلاف المحابيس، دافئة، واحيانا حارة خانقة، لانهم يتنفسون ويعرقون، ولأن لها جدران اسمنتيه سميكة. أما ارض الحرية فلا تزال مهجورة، ناهيك عن اننا هنا نعيش في الطل.

المخلص دائما،
عاصم.


خطاب الرفيقة (الأصلي): أنا لم اقتل الله خوفا على امي

الاثنين، 23 مايو 2016

ربيع الصحراء



  كل البشر يتلذذون بتلك الحرارة في قلوبهم حين يستمعون إلى صوت، إلى رنين احبال صوتيه في صندوق الحنجرة. حين يستمعون إلى تتالي طرقات على لوح خشبي، او موجات الصوت تندفع من مكبر متصل بثمة جيتار، إلى ضوضاء متسقه تخرج عن حركة ميكانيكيه تدور في مكان ما. كلنا نشده وننتبه، ثم نأنس ونأمن...


في معسكرات الصاعقه، حيث قضيت ما لا بأس به من خدمتي، اتوا مرة بفرقة تعزف الموسيقى العسكرية. اللحن العسكري جاف وحاد، لكنه لحن والادوات التي سيستخدمها المزيكاتيه العسكريون (الذين يرتدون حلات عسكرية كذلك، ويزين تراب الوطن احذيتهم ايضا كباقي رجال الجيش) ادوات موسيقيه، سكسافون وطبله ومزمار وطبول صغيره وطبله وحيده ضخمه يمتد دبيبها عدة كيلو مترات في الصحراء الشاسعه. استيقظت يومئذ على هطول "كباية" الشاي إلى ارض الدوشمه (العنبر تحت الارض يُسمى دوشمه)، لان كل شئ كان قد بدأ في الاهتزاز. فحفل تخريج احدى الدفعات قد بدأ للتو. والخطوة العسكرية لألف او ما يزيد تستطيع ان تهز ارجاء المنطقة بالكامل. وخرج فجأة، من غير انذار بخروجه، صوت فض بكارة الصمت الصحراوي الرتيب. صوت خرق آذاننا كصور يوم البعث. ففغرت افواهنا وانتبهنا، ومرت في عروقنا نشوة خاصة جدا. بحثنا وتفرسنا عن مصدر الصوت الرائع القوي. تلفتنا يمينا ويسارا، ثم إلى الاعلى! ان الصوت قد جاء من الاعلى. خرجنا متسربين. ولما تلقينا أول شعاع شمس ابان صعودنا درجات السلم الذي يقود من الدوشمه إلى مستوى الارض، كان "البكباشي" قد تابع النفخ في آلته الضخمه. فانطلق لهيب الصوت مثل كورال كنيسة في عيد الميلاد، ولقد احرق الاتربه والرمال التي تكدست حول اعناقنا. رأينا في الخارج غبارا واتربه، نتجت عن دبيب خطوات المشاركين في العرض. ولاحظنا اعلام الشرطة العسكرية في المحيط. والاهم، اني لاحظت ولا ادري ان كان غيري قد لاحظ، ان كل الجنود المختبئين في كل الدشم، قد خرجو في نفس التسلسل وبنفس التوقيت. مثل وحوش بريه مختبئه في جحورها، خرجت لاستقبال الربيع، في وداعة لا تليق بوحوش، لكنهم مطبوعين على استحسان الجمال بفطرتهم. قد يبدو هذا الوصف كليشيهي لحد بعيد، لكن الموسيقى يومها كانت كما ربيع الصحراء. الصحراء الشاسعه المحفوفه بالافق والمنكسرة اسفل شمس لا تنكسر، والمضروبه بصقيع الليل، التي لا ربيع فيها، فكلها فصل واحد، حار يحرق، وبارد يقشف الجلود، وماؤها لا يُشرب. لكن الموسيقى التي عُزفت يومئذ، فجرت ينبوعا من المسرات في تلك الصحراء البرية القاسيه. لقد شرحت لي تلك الموسيقى الكثير عن الدور الذي كان يقوم به رجل يرتدي عمامه كبيره بعض الشئ يجلس متربع الساقين امام حيه، يحرك اصابعه وينفخ بكل عزمه ليصدر لها تلك النبرات. لقد كانت الحيات والصقور من فوقها في السماء، تستحلي صوت الربيع في مزمار ذلك الرجل. ونحن كذلك يومئذ، لما انتبهنا وصعدنا إلى الشمس، فلم نجدها شمس بل وجدناها شيئا ناعما! شيئا يرقص لتلك النغمات التي طافت في فضاء هذا الصباح.

فقراء، وحاقدين ايضا

   

   لكن لان الحقد حقنا، نحن الفقراء والضعفاء. انه حقنا الازلي، والذي لن نتنازل عنه، سنحقد، وسنبالغ في الحقد، حتى وان شرعوا الف عقوبة للحقد، الاعدام لن يخيفنا، وجهنم، وعيد الحاقدين، لن تصدنا عن الحقد الذي يأكل في قلوبنا. فما ميزتهم كي ينعموا ونتعذب؟ لماذا يتغنجون في الرغد ونفترش نحن التراب ونتلحف بالبرد؟ ما ميزة هذا الرجل السمين ذو الشارب الكث الذي يغطس في طعامه الشهي، اللحوم والاسماك، في هذا المطعم الفاخر في وسط بلدتنا. حتى كلبه، ينول من شهي الطعام نصيب! ثُم يتأففون منا، الفقراء الواقفون امام الباترينه، يحقدون، فقط ينظرون للطعام فيسيل لعابهم، لا يتقدمون خطوة ولا يستأخرون، لانهم ضعفاء ولان هزالهم يحول بينهم وبين ثورة، وبين تمرد، وبين تحطيم هذا الزجاج. فها نحن واقفون خلف الزجاج، فحتى ريح طعامه الشهي لا تصل لانوفنا... لكننا رغم ذلك لا نملك الطعام، فلذا، نحن واقفون، نُشاهد فمه يلوك المُضغة من اللحم ويحتسي اللذيذ من الشراب. ولا نتمنى لاننا نعلم اننا لن ننول، فقط ننظر، ونحقد ثم نصرخ في وجوه بعضنا البعض... وهذا الطفل الذي فقد ساقه، هذا الذي تحمله امه المريضة بسرطان الثدي، التي لا تجد مالا لتطعم ولدها، التي ترفض المستشفيات "الخيريه" علاجها، لان طليقها مسجل خطر، لانه تشاجر ذات مرة مع واحد من البهوات، مأمور احد الاقسام. هذا الطفل، الذي اخذته امه ليبحثا في صندوق النفايات عن بعض القوت، في وسط الشارع، وامام اعين اناس جاحدين. هذا الطفل الذي انشغلت عنه امه لوهله، فراح يلهو في الطريق، فمد يده إلى كلب السيد السمين، يُداعبه مثل اي طفل. فنهره سيدنا المتجه إلى المطعم الفاخر القابع في وسط بلدتنا، لان كلب سيدنا، اهم من طفل برئ، اقصد انظف، والطفل، هذا الطفل يداه متسختان بالقذارة... قذارة من تلك؟ هذا السؤال يجيبنا عنه جارسونات المطعم الفاخر القابع في.. لا يهم اين يقبع، المهم انهم هم من يكبون بالنفايات إلى هذا الميدان... يجمعون بقايا طعام السيد السمين، سيدنا، طعامه وطعام كلبه وطعام زوجته، وطعام بنيه واحباءه (ذكرنا الكلب قبل الزوجة والابنا بغرض الاهانة لان حقدا يحرق قلوبنا) ثم يُلقون به إلى قارعة الطريق. والنية من وراء ذلك حسنة بريئة. خل معي، ما النيه؟ النية والغرض، اطعام المساكين، لكن بشكل يليق بالمساكين. "فلا احد يقدم الطعام لحيوان ضال عند عتبة بيته، بل يلقي بالطعام إلى قارعة الطريق، فتفتش عنه الحيوانات الذليله"-مثل روسي، بتصرف.

  هل فهمت الدرس بعد؟ هل فهمت لماذا نكرههم؟ ولماذا نحقد؟ ولماذا لا نرضى؟ لانه لا تبرير للحال، ولانهم ليسوا افضل بكثير. انهم فقط محظوظون. ونحن... نحن العاهره، والنقاش، وعامل السباكه، ورجل النظافه المسن الذي يتكئ على مقشته فيسقط للطريق، فيصرخون فيه، اتم عملك والا لا نعطيك اجرا، ونترك ابناءك وزوجتك للجوع يتضورون! نحن عاملة النظافة في تلك الجامعه، التي تُنظف حمامات يستخدمها ذكور ذوي بطون منتفخة، واناث ذوي ملابس خليعه. نحن العجز والخيبه وقلة الحيله. نحن من لا يهتم الاغنياء لمآسيهم، حين يعرضون اعلانات المجتمعات العمرانيه الجديده في التلفاز. نحن الجهل الذي يشمئزون منه! نحن الوساخة والقذارة في قاع ذلك المجتمع. ونحن هنا في القاع، لانهم يضغطوننا إليه بشده، لانهم يقفون منتصبين باحذيتهم، وبكعوب زوجاتهم تنغرس في رقابنا. خدم وحشم لهم. نحن الخادمة التي ضربتها ربة البيت حين تحرش بها ابنها. نحن مكتوف الايدي الذي يبيع لك المناديل في حر كوبري الجامعه. هل احكي لك المزيد؟ عن فقرنا وقلة حيلتنا؟ ام يكفيك ان اقول لك اننا نحقد، وان الحقد حيلتنا الوحيده، فتدعني وشأني، ولا تدعوني بسم الصليب ان اهدأ. واتركني لحالي... رجاء اتركني لحالي. فقط اعطني قرشين، حتى اشتري الغداء، فالجوع مؤلم، اكثر من الذل واكثر من اي شئ. فقط اعطني قرشين...