السبت، 14 سبتمبر 2013

الشذوذية الجنسية، ما بين اللعنِ والاباحة

إذا لم تكن قد قرأت رواية عمارة يعقوبيان للروائي المصري علاء الأسواني بعد، أو أيا من الروايات المماثلة التي تنقل إليك نتفات من حياة الشاذ النفسية والمادية، فرجاء اقرأ احداهن قبل المثول امام هذه التدوينة.

قبل أن أطلق حكمي النافذ على الشذوذية، أود أن اسرد "على استحياء" أنواعها المختلفه:
أنواعها عده، ومن أشهرها المثليه-لدى الذكور أو الإناث-ومن أكثرها انتشارا الاشتهائيه-اشتهاء صفات معينة في الشريك-ومن أخطرها السادية وخليلتها المازوخية-تختصان بالميول التعذيبيه-ومن أحقرها الفيتشيه-التعلق بأجزاء بعينها من جسد الشريك-ومن أبسطها وأهونها التسفيل، ومن أنواعها أيضاً الغلمانية-الممارسة الجنسية مع الأطفال-والتحرشية-غنية عن التعريف في مجتمعنا العربي-والاستنماء-يطلق عليه أيضاً كـ "مُسمى تاريخي"، العادة السرية-وغيره مما لم نُحط به علماً من الأنواع المختلفة التي تعكس مدى غرابة التكوين الإنساني وبشاعته.

أرى أن، البشر أجمعين ميالون للشذوذ، منهم من يكتفي به فكراً ومنهم من ينتهي به فعلاً، وهم فيه أيضاً متدرجون فمنهم من تدنى لمراحل تتخطى الوصف، ومنهم من اكتفى بخلجة نفسيه في ساعة صفو زاهية.

الشاذ حسبما أرى مريض في حاجة ماسّه للشفاء، له على المجتمع حق، حق الإعانة والمواساة، على المجتمع أن يقدر قيمته كانسان، على المجتمع أن يوفر له سبل الشفاء، وألّا يكل أو يمل في سبيل تلك الغاية النبيلة، في سبيل شفاء المريض!

أما كيفيات علاجهم، فليست هذه التدوينة بمحل تفنيدها، ولعل الله يتيح لنا أن نستطرد في سمات العلاج أواناً لاحقاً.

المجتمعات العربية مجتمعات فاشية، تسب وتلعن اهل الشذوذية أينما ثقفتهم، كأنما ذاك هو دواء الداء الذي يُظن من جراءه الشفاء، فتباً لهذه المجتمعات التي تحتقر مريضاً لمرضه، بدلا من أن تُصغي لآلامه وآهاته فتعينه وتؤهل له مخرجاً من جحره الذي سقط فيه لما بادروه بالإهمال ثم عابوه بالافشال وامروه بالامتثال لازدرائهم من دون وعي بما سيخلفه ذلك في نفسه من الأنين والكره الذي سيدفعه دائماً للانتقام منهم إما بابقائه على ممارساته والتزيد منها أو بنشرها بينهمو كي لا يظل وحده المقبور بظلمات الجهل المتفشية في مجتمعه.

أما المجتمعات الغربيه فـ "حكايتها حكاية"، تلك المجتمعات تدعي أن الشاذ معافى وأن له الحق في التنعم بممارساته الدنيئة الخارجه عن الفطرة، إي نعم الفطرة، فالفطرة ما يسبب النسل لأن النسل عمارة للكون التي هي من بديهيات الأهداف الإنسانية، أما ما عدا ذلك فهو حقاً خروج عن الأصل بل انحراف عنه، ولا داع له، ولا مناص من ضرورة التخلص أو الحد منه على أدنى تقدير.

قد يُخلق أحدنا معاقاً، أو تُصيبه إعاقة ما في طفولته، أو على كبرٍ، حينها يتصرف المجتمع الناضج القويم معه تصرفاً علاجياً تنموياً يحفظ من خلاله كرامة المعاق ويستعيده إلى حظيرة الإنتاج المجتمعية، أما المجتمع الرجعي فهو إما يهين ذلكم المعاق لإعاقته-كما أهل المشرق-أو يصب في خيالات المعاق أوهاماً بأنه طبيعياً وأن حالته تلك ليست باستثناء-كما نرى لدى الغرب "المتحضر"-وكلا الطريقين يزيدا "الطين بلّة" ويهددا الأفراد قبل تهديدهما للمجتمع، فالأفراد حينئذٍ إما مقموعون أو مخدوعون.

أخيراً،
أود أن ألفت انتباه سعادتكم إلى ان بعض مرضى الشذوذية قد ولدوا بحالات فسيولوجية أو سيكولوجية أدت بهم للشذوذية، ومنهم من مارسها في الصبا فنشأ عليها، ومنهم كذلك من "تعلمها على كبر"، وأحيط علم سيادتكم بأن سيكولوجية وفسيولوجية الشاذ تدعم افعالة-بحسب ما توصل اليه العلم الحديث، عليكم بمراجعة الأبحاث العلمية المنشورة بخصوص هذه الظاهرة(2) -لذا فهو هو، وهو ليس بمدعي وهو ليس بمتصنع وهو ليس بساع إلى حالته.

ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء!

بالرابط أدناه، اغنية للفرقة الافرنجيه "ميج"، بعنوان أغنية المجتمع الحزين

==============================================
(1 ) كلمة الشذوذ تُستخدم بكثرة في وصف المثليه بين الذكور فآثرت استخدام كلمة "الشذوذية" لاعبر عن الحالة الأعم والأشمل كما يتضح من التعريف المذكور أعلاه.

(2 ) review (for example) chapter 11 from DSM-IV-TR® Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders

الجمعة، 16 أغسطس 2013

كيف انجرفت الى تلك البؤرة؟


طالما نظرت إلى الدم على أنه أسمى المقدسات، فرفاهية النزاع السياسي عندي تزول بسقوط قطرات الدم، لأن القتل حتما هو أبشع الجرائم الإنسانية على وجه الكون، حتى أنني لا أستطيع أن أتصور جريمة اشد ثقلاً، فالقتل سلباً لحياة انسان من غير حق، والقتل ترميلٌ وتيتيمٌ وتثكيلٌ، والحالة الوحيدة التي يعاقب فيها الانسان (قانونيا \ فقهيا \ دستوريا) بالقتل تكون حالة ارتكابه للقتل العمد، وحتى في ذلك الحين لا يقتل مسفوكاً مهدراً بل توجب الشرائع (السماوية \ الدولية) احترام آدميته وإعدامه بطريقة تليق ببني الانسان.

لهذا كله كان انحيازي الدائم إلى صف المدنيين في مواجهة الأمنيين، فالمدنيون كانوا عُزل والأمنيون كانوا حُمّل بالسلاح والمؤن، ومع كل جثة تسقط كانت روحي ترتجف، والكون من حولي يدور، لكنني أقنع بعد حين، لأنني بعيدا عن الحدث، لأنني لا اعرف من مات، فليتولاه أهله ومن والاه، فهم أحق به، ثم اشتعلت نيران العنف الطائفي في مصر، واندفعت الأرواح متزاحمة الى السماء فبأي ذنب قتلت؟! وبأي حق تموت، يتبارز المشايخ والقساوسة-المنحرفون-في تهييج القلوب، فتزول الرحمة والإنسانية أبدا من قلوب البسطاء الذين ينجرفون وراء دعوات اغيثوا (دينكم \ المسيح)، فتبحث في صور القتلى لكي تتأكد أن الموت لا يعبأ كثيرا بهوية الانسان ودينه، وتكن واثقا من ان ملك الموت ليس عنصرياً.

بقيت هكذا دهراً اتعجب من الاستخفاف بالدماء.

الموت الطبيعي يختلف قطعا عن القتل، ففي الأول نهايتنا التي نرجو، وللثاني بشاعة لا توصف. لكنك تبقى منعما مادام القتل بعيدا عن ذويك، ففي الحقيقة يمكنك أن تتعاطف، ويمكنك أن تحزن، لكنك أبدا لن تشعر كما يشعر ذوي القتيل(الشهيد) إلا إذا انفجر لغماً دموياً بالقرب منك.

في ابريل\نيسان عام ألفين وأحد عشر، انفجر اللغم الأول وعلى مسافة ضئيلة من روحي، حتى انني قضيت وقتا انتزع شظايا الانفجار منها، فخبر موت رئيس هيئة الموانئ البرية اللواء حاتم عبد الوهاب زهران لم يأتيني عبر الجرائد أو وسائل الاعلام كما هي العادة، بل وصلني الخبر عبر المحمول، لأعلم بأن الخال والعم والأب قد قُتل، ذهبت الى مستشفى القصر العيني واجماً، ليتأكد الخبر، لأرى أهليه وأهلي واجمون مثلي، كلنا يحذونا الشك، لم ننتقل بعد الى الواقع، فمازال معنا وسيظل ابدا معنا تجاورنا روحه أيان نكون، لقد كان ذلك الرجل في حياته سنداً ودعما لشخصي ولأسرتي، وحتى بعد موته... فيما بعد خرجت علينا الصحف الصفراء تُدلس خبر مقتله على أنه حالة انتحار نتيجة لاكتئاب حاد كان يمر به، وهيهات ان اُصدّق، وهيهات ان يَصدِقُوا، فلا الصدق عادتهم ولا التصديق مَنطِقي، وهكذا أُغلق الملف وانتهى الأمر وعاد كل لمنزله، لكني لم أعد، لم استطيع النفاذ بروحي من هذه الأهوال.

تعاظمت لدي قضية القتل أكثر وأكثر، علمت بأهمية القصاص لما حُرمت منه.

اليوم العشرين من نوفمبر\تشرين الثانِ عام ألفين وأحد عشر، يوم الأحد بعد امتحان الالكترونيات (ميدتيرم، "تانية" اتصالات، كلية الهندسة جامعة القاهرة)، انطلقنا في مسيرة طلابية حاشدة تنديدا بالاعتداء الآثم لقوات الجيش المصري على مصابي الثورة المصريين، سرنا متكاتفين من الجيزة حتى وصلنا الى ميدان التحرير، هنالك تفرقت المسيرة بين مرابض في الميدان ومتهجم على قوات الأمن التي تحف شارع محمد محمود، رافقني يومها صديقان هما محمد علاء وخالد الخطيب، اشتعلنا بالحماس الثوري، واقتنى كل منا قناعا مضادً للغاز المسيل، وقرر ثلاثة شباب من مهندسي المستقبل الانضمام الى صفوف المتهجمين على قوات الأمن، وما هي الا لحظات لأجد محمد علاء مغشيا عليه، أحمله وأركض به بحثا عن الإسعاف، معظم المُسعفين كان انشغالهم بحالات اشد خطورة، فهناك جرحى بالمئات أولى بالانشغال، أما أصحاب حساسية الصدر الذين يتسبب الغاز المسيل في اختناقهم فلا مثوى لهم سوى كتفي. كم مرة أضحكتنا ذكرى هذا اليوم؟ لكن الضحك لا ينحي الجزع في داخلي، فصديق تحمله على كتفك وتصرخ بمن حولك اغيثوه، تأتيك خاطرة بأنه سيموت فتكاد تنفجر منك روحك، اضطرابا عجيبا يبقى في الروح مئات وآلاف السنين حتى بعدما تشرع في الضحك.

لو ان مكروها أصابه، هل كنت سأطالب بالقصاص من الغاز المسيل للدموع؟

ظل انشغالي بالسياسة عاماً من بعدها، ظناً مني أن في السياسة أملا كي نسترد حقوق قتلانا، حتى فاز هذا المرسي بتلك الانتخابات الهزلية-التي لم أشارك فيها-، انفجرت خلال هذا العام ألغاما محدودة المدى لكنها كانت قريبة مني، مثل لغم عبد الرحمن الموافي أسير العسكر الذي اشتعل لأجله اضراب كلية الهندسة في فبراير عام ألفين واثني عشر، فذلك الفتى كان معي في نفس الفصل في السنة الإعدادية بالكلية، وعلى الرغم من كوني لم اتعرف عليه مطلقا-لا قبل ولا بعد الاضراب-الا انه كان بمثابة نذيراً بأن الألغام قد تتفجر على مسافة اقرب مما تتوقع.

لكنها لم تكن قضية قتل، فقط تعذيب في سجن بدون جريمة حقيقية لا أكثر!

وفي زمن المرسي تحول مجرى الأمور من تدافعا بين الأمنيين والمدنيين إلى بوادر الحرب الأهلية، فهذا "القائد" قد حول الأمر الى نزاع بين فصائل الشعب (ثوار \ فلول \ اسلاميين) وصارت مجازر عند قصر الاتحادية باسم حماية الدين من الكفار كما ستجري مستقبلا مجازر باسم حماية الوطن من الإرهاب، ومع ارتفاع موجات الشحن الإعلامي المتبادلة من كل الأطراف المتطرفة تجد أول ما يُبذل هو الدم، دماء تراق بلا سبب، وكأن القتل سيولد التعايش، وكأن القتل سيجلب شيئا ثميناً. وفي ضوء هذه المعارك الوطنية "النبيلة" كانت نفسي تتطوح مع كل صرخة مدوية يطلقها ضحايا التطرف السياسي الغاشم، فاعتزلت السياسة، اعتزلت الأخبار، وحتى السجالات السياسية على شبكات التواصل الاجتماعي اعتزلتها أيضا، تقريبا لم اترك في حياتي شيئا سياسيا واكتفيت بالعلم والثقافة التاريخية سلاحين احفظ بهما لنفسي وزنا في زمن لم يعد لأي منا فيه وزن. وفي يومٍ من أيام ابريل\نيسان عام الفين وثلاثة عشر، وصلت الكلية وحماسي يدفعني نحو المحاضرات، فوجئت بلغم جديد ينفجر، اعتقال عمرو ربيع ومجموعة من خيرة شباب هندسة القاهرة في أحداث جامعة المنصورة، وهكذا مجددا انجرفت الكلية في اضراب آخر لاستخراج حق زميلنا من قلب قلاع الظلم العسكري، لكنني حينها كنت بارداً لم أُصاب بالرجفة المعتادة، فقد تباعدت المسافة بيني وبين الواقع، صرت روحانيا أكثر من اللازم.

سألني أحد المقربين عن رأيي في "تلاتين ستة"، فأجبته بأن للمرسي طبقة عريضة من الشعب تؤيده، لذا فرحيلة مقترن بحرب أهليه ضروس تأكل الحابل بالنابل، وها قد كان، جاء الانقلاب العسكري في مصر بويلات لا طاقة لنا بها، لكنني احترز من السياسة فهي تقطع القلب وتطفئ نور الحياة، فقط أُطلق صرخات في وجه من يهون من احداث الحرس الجمهوري بأن "في ناس ماتت وأن ذلك القتل لا يُغتفر"، لكن معظم من اعرف من الأشخاص لا يقدرون لوعة القتل ويصرخون بصوت أعلى عند حرق مصحف أو تفجير كنيسة أو انقطاع كهرباء.


خالد الخطيب

في حديقة الأزهر واثناء إفطار رمضاني شهي،  تفجر من بين الصحون الدسمة لغم عنيف، حيث أخبروني أن خالد الخطيب معتقل لدى أمن الدولة، ذلك الحليم الهادئ في المعتقل!، تذكرت أول مرة رأيته في السنة الإعدادية حيث عملنا معا في مشروعا للتذكرة بالقضية الفلسطينية، لم أحبه حينئذ، لكن مرور الأيام أثبت لي أنه يستحق أن يكون قطبا من أقطاب الفكر الإسلامي الحر الذي يختلف وبشده عن الخراف التي تردد هتافات "جيش محمد سوف يعود" من دون وعي بالتراث الحقيقي للأمه، أما الخطيب فهو رجل ذو ذوقٍ فنيٍ مختلف، وله آراء فلسفية عميقة، تعجبت ان اسلامياً مثله يفكر بهذا المستوى، تذكرت بحنو شديد رحلتنا سوياً في الثورة، تذكرت على وجه الخصوص يوم عملنا معا في التحريض على اضراب عمرو ربيع.

طال الوقت ولا عمل بين أيدينا كي ننقذه من وحوش العسكر، وكنتيجة حتمية لابتعادي عن شبكات التواصل الاجتماعية فاتتني الوقفةالتي خصصوها لخالد الخطيب عند مكتب النائب العام، سأتحرج حتما من النظر الى عينيه عندما يخرج الينا سالماً، لأنني وغدٌ كبير.

استيقظت في الرابع عشر من أغسطس الحالي وارتديت ملابسي، تجهزت ذاهبا للعمل، وصلتني مكالمة هاتفية تُنبئني بفض اعتصامي رابعة والنهضة، تلقيت الخبر كالصاعقة، فهذه الضربة ستقضي على الوطن، لا والله لن ينتصر أحد، لكن القيادات المتطرفة على الجانبين لا ترى سوى شهوة السلطة العمياء. كثير من المصريين ضاعت انسانيتهم، صاروا وحوشا ضارية تقتل لأتفه الأسباب، كان مؤكداً لدي ان عدد الضحايا سيؤول للمئات، لكني ما كنت أتصور ان أحداً ممن أعرف سيندرج في قائمة الضحايا.

مرّ يوم الفض وارتجفت روحي لهذه الدماء التي اريقت، لكن عقلي كان متزنا الى حد كبير، بكيت كل قتيل رأيت صورته دون الالتفات طويلا للهوية، وأخذني الفضول لأن ألقى نظرة على شبكات التواصل الاجتماعية، ففوجئت بالتطرف يدب في كل مكان، وكل امرئ يبكي على ذويه فقط، يبكي على خاصته وعشيرته، ويسب ويلعن فيمن عاداهم، نسي هؤلاء ان الوطن إذا قتل ابناءه بعضا ما بقي وطناً.

اكتشفت اثناء تصفحي لـtwitter  أن كلية الهندسة قد احترقت ونُهب أغلب ما فيها من معدات، طال بي العجب، كيف تحولت الأيدي الآثمة من القتل الى احراق هذه القلعة العلمية؟، انها العقلية المصرية التي تصور حرق المباني الحكومية على أنه اشد ضراوة من القتل، لكنني لست مثلهم، فاحتراق الكلية هو الحدث الهين في تلك الأيام، ثم فوجئت بتفجير بشع في لبنان أتى ليزيد الطين بله، كي يتأكد لدى الجميع أن الوطن العربي كيان واحد حتى في التطرف والعنف. ثم هالني انفجار اللغم الهائل، سمعت دويه في أعماق نفسي، وهمسات "لا، لا يمكن ان يكون" التي انطلقت خافته من فِيِ لم تكن الا انعكاساً لصرخات موازيه خرجت من روحي التي ارتعدت، من ضمن خمسة عشر ضابطاً ذُبحوا في قسم كرداسة، كان اثنان هما أبوين لاثنين من زملائي في الكلية بل من أصدقائي المقربين، والد الطالبة\ناريمان مصطفى الخطيب وعم الطالبة\غادة محمود أنور.

 توصلت إلى غادة عبر الهاتف فقالت لي: "ما أشبه اليوم بالبارحة، تذكرتك تحكي لنا ما جرى لخالك اللواء الذي قُتل"، حادثة الذبح مروعه بكل المقاييس حتى انني لم اتجرأ على مشاهدة صورها، لكن الترويع الحقيقي كان في أعماقي، فهذا اللغم لم يكن معمول حسابة قط، لقد جاء قريبا لدرجة لم أتصورها قط، وجاء قويا بطريقة لم أفهمها...

أستطيع الآن أن اندم، أن أندم على تلك العزلة الني فصلتني عن الواقع، فقد كنت ألهو لاعبا حين قُتل من قُتل من خاصتي، ولم أعرف إلا بمحض الصدفة، كل ذاك لأنني أتجنب الفتنة، لأنني أريد أن أحفظ اعصابي هادئة ونفسي مستقرة، بعيدا عن الدماء واللغط، لكن الثمن صار غاليا جدا.

كيف انجرفت الى تلك البؤرة؟، كيف تحولت من ثائر إلى شخص اعتزل الحياة المجتمعية؟

الخلاص الحقيقي تجدونه في الإنسانية، فلو حكّم القاتل انسانيته لما قتل، ولو حكم الشامتون انسانيتهم لما شمتوا، أتمنى أن يخرج كل منا رغم تلك الاحداث الدموية "انساناً" يعرف ويقدر معنى الحياة. حقيق أن السلبية المبالغة التي أمارسها بانعزالي التام عن المجتمع لها أضرارها، لكنها على الأقل تحجبني عن القتل والاقتتال الذي ربما ينجرف اليه أي مصري الآن عاقل كان أو جاهل.


رحمة الله على شهداء الوطن أجمعين إخواناً كانوا أو أمنيين.


الاثنين، 8 يوليو 2013

تَعفُّن الإسلام


خرج محمد-صلّى الله عليه وسلم-على أتباعهِ بدينٍ حنيفٍ، آتاهمو القرآن الذي تمّم لهم مكارم الأخلاق وأعجْز ألسنتهم، وحرضهم بصريح العبارة على جهاد الكافرين، فغلبوا الروم وأطاحوا بالفرس واندفعوا في الآفاق يقوضون العالم ويسودونه، خرجوا من هامش التاريخ إلى صدارته، فتمكنوا من العالم القديم جُلّهُ، حتى قال أحد الأمراء الفاتحين في حديثه وملك الصين "أول خيلنـا فـي بلادك وآخرهـا فـي منابـت الزيتـون"(1)، ولمّا استتب الحكم الإسلامي بين الورى، مال العرب عن الحرب قليلاً وانشغلوا بمدنية الإسلام يعززونها.

فامتزجت ثقافة العرب البدوية البديهية بثقافات الفرس والهند والروم وغيرهم من الأمم التي انصاعت لحكم الإسلام، فخرج لنا مزيجاً مذهلٌ آنذاك، مزيجٌ عبّر بصدقٍ عن كُلِّ عناصره، له عيوب تُزامل مزاياه لكنها لا تُضاهيها. فذاع بين سَرَاة الناس نزاعاً فكرياً حاداً في كل كبيرةً وصغيرة، يَهمُنا منه الآن النزاع العقائدي الذي انبثق-جزءً كبيراً منه-من الصراعات السياسية فخوارج يروّنَ أن الحكم لله وشيعة يرون الولاية في بني هاشم، ومُرجئةٍ يتجنّبون السياسة بعقيدتهم(2)، ثمّ مُعتزلة أرستقراطيون يطنِبون في الكلام العقائدي، ينقلون عن أرسططل-أرسطو-وفقهاء الفلسفة اليونانية فلسفتهم، فيُحيلون ويحتالون، وأهلُ سَلفٍ لديهم النقل أعلى من العقل، ثم أشاعِرة يتخيّرون لأنفسهم موقفاً وسطاً بين المعتزلة والسلف-المتطرفين-، وكثيرون غيرهم لا يَسعُنا ذكرهم. نشأت تلك الفرق تباعاً وتنازعت فيما بينها البعض نزاعاً تجده هادئاً يتّخذ شكل المناظرات والمناقشات في المساجد أو بيوت الخُلفاء حيناً، وتجده عنيفا قاسياً تُسفك لأجلهِ الدماء ويُأجج نيران الفتن ويُشعلُ الحروب حيناً آخر.


مرّ الإسلام بظروفٍ شتّى عبر الزمان، فانتصارات تَعقُبها هَزائم، وأيام زهوٍ مُضيئة تتبعها ليالِ جهلٍ معتمة، آونة يكون الإسلام منار التحضر والعدل للعالم، لكنه تدور عليه أيامه فيصير معتنقوه عبئاً ثقيلا على العالمين، كُلّ هذه التغيرات التي تعرض لها الإسلام أوّفرت منه القليل، ففي آونة الهزيمة تُحرق كتب المسلمين بأيدي أعداءهم-كما أحرق التتار مكتبة بغداد 656هـ -، وفي آونة الظلم وبطش الحكام تُكمّم الأفواه كي لا تُصرّح بالحق، فيَضمُر-الحق-ويَذيع الباطل، أما آونة الجهل ففيها تُلفّق الأكاذيب بالدين حتى يتماشى والذوق العام-الجاهل-، وهكذا، فكل انتكاسة للمسلمين تُلحق بدينهم أذىً كبيراً، أذىً لا تدفعه نهضة المسلمين من بعد نكستهم، لأن الحق حين يُمزَج بالباطل يصعب تمييزهما من بعضهما البعض، لهذا تجد كتب المسلمين مملوءة بخرافات وعجائب لا يقبلها العقل وإن أيّدها الناقلون وأكدوا ثبوتها.
________________________
(1) قالها الأمير قتيبة بن مسلم مشيراً لأن دولة المسلمين تاخمت حدود الصين من الشرق وبلغت الأندلس-اسبانيا-في أقاصي الغرب-وكان ذلك في عصر الخليفة الوليد بن عبد الملك 86هـ:96هـ -.
(2) قامت عقيدة المُرجئة على إرجاء الحكم لله، فهم لا يحكمون بكفرٍ أو زندقةٍ على أحد ذلك أن الله سيفصلُ بين الناس يوم لقائه، و الراجح أنهم فضّلوا تلك العقيدة تجنُّباً للصدام مع رجال السياسة.

   ،

أهم نصوص الإسلام هو القرآن وهو ثابت قطعي لدى كل الطوائف الإسلامية، متواتر، أي أن المسلمون لا يعتمدون في نقله عبر الزمان على الكتب، بل تحفظه صدورهم، يَتلونه آناء الليل وآناء النهار، هناك الآلاف من حفظته عبر الأجيال المختلفة، فاحتمالية تحريِفه أقرب إلى الاستحالة، والحق أن المسلمين تعلموا الدرس لما رأوا من تحريف الكتب المقدسة الأخرى، فكان حريٌ بهم أن يتخذوا مسلكاً مختلفا في حفظ النصوص القرآنية من التحريف، فاستغنوا عن الكتب بالقلوب التي تحفظه. ما سلف لا يعني بالضرورة أن القرآن لم يتحرف، فنُصوصه قد حُفظت لكن معانيها تبدلت وتغيرت، واُستخدمت في غير محلها الأوّل، بل و ضاع منّا المعنى الأول تماماً، أي أن المعنى قد حُرِّف. وربما يُحتج هنا بأن القرآن رسالة إلهية مناسبة لكل العصور فلذا تتغير تفاسيره عبر الزمان، لكن هذه النظرة-المخالفة للمنطق-لا تُعلّل انحراف المعاني إلى هذا الحد، فيستحيل على سبيل المثال أن يكون الإسلام دين قتلٍ وسفك دماء كما تفهم الجماعات الجهادية، فذلك هو التحريف بعينه، وليس تجديداً يحفظ للرسالة عصريتها.

صحيح البخاري
يلي القرآن في الأهمية لدى أغلب المسلمين الحديث النبوي(1)، لم يُحفظ الحديث بطريقةٍ تؤمّن سلامته من التحريف، فلقد تُرك للتداول بين العلماء قرنين من الزمان قبل أن يُجمع في كتابٍ، حتى أن البخاري(2) اختار 7500 حديث-تقريباً-في صحيحه من أصل ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره، وذلك يدلُّ على كثرة الوضع في أحاديث النبي، وكثرة الوضاعين. وأسباب الوضع مختلفة متعددة، نتفرغ لإيضاحها في مجالٍ آخر. المثير هنا أن جمع الأحاديث في الكتب لا يضع حداً لتحريفها لِعِلَّتين، الأولى ان ما جُمع من الأحاديث ليس كلّه صحيح كما بدا للمحدِثين بل إن كثير منه موضوع، وخاصة ان المُحدثين قد اشتغلوا كثيرا بتصحيح من نقل إليهم الحديث-السند-وتهاونوا في جوهر الحديث-المتن-، فقد يحمل الحديث خرافة يقبلونها لأن السند صحيح، أما العلّة الثانية أنهم قد حصّنوا بهذه الكتب نصّ الحديث، أما المعنى فهو مُعرضٌ للتحريف كما أبنّا-في معنى القرآن-.

تأتي في المرتبة الثالثة من الأهمية، اجتهادات العلماء في بيان الإسلام، فهناك من المسلمين من يقدّس اجتهادات الأوائل-مثل السلفيين-ويُبديها على عقله، وهناك من يأخذها في الاعتبار من دون توغلٍ في التقديس، وهناك من يرفضها البتة، وفي هذه النصوص كارثةٍ كبرى لأن آراء العلماء هذه لم تنزل من السماء بل نتجت عن أفكار بشرية في عصور مختلفة وظروف شتى، فلا يصح أن تُفرض هذه الأقاويل والحجج إذا تغير الزمان و المكان، بل إن الواجب يقتضي ان يُعيد علماء كل عصر الكرة من جديد و يبحثون من جديد آخذين في الاعتبار أقاويل القدماء من دون تسليم بصحتها، لكنهم في الواقع لا يفعلون، وذلك الباب خطره عظيم على الدين، فهو يفتح مدخلاً هائلاً لأن يقع المسلمون في فخ التخلف والرجعية.
_______________________
(1) هناك بعض الفرق من غلاة الشيعة يفضلون سيرة الإمام علي-رضي الله عنه-على أحاديث النبي-صلى الله عليه وسلم-.
(2) الإمام البخاري هو رائد المحدِّثين-علماء الحديث-، وضع كتابه صحيح البخاري في منتصف القرن الثالث الهجري، وفي هذا الكتاب لا يكتب إلا الأحاديث التي صّحت عنده، ويضفي بعض المسلمين قداسة شديدة على هذا الكتاب فيقال "إن أول كتاب بعد القرآن الكريم، صحيح البخاري".
  ،
على الجملة فقد وقع تحريفا كثيراً في الإسلام، حُرّفت النصوص وحرّفت معانيها، ففسد منها الكثير عبر أزمنة متفاوتة كما أبنّا، نأتي أخيراً للحجة الواهنة الملتصقة بأذهان المسلمين من أن نصوص الإسلام لها حماية خاصة، فهذا الدين يحميه الإله بنفسه من التحريف حيث يقول الله في كتابه: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"-الحجر 9-فتصير هذه الآية برهاناً لدى كل المسلمين على حصانة القرآن من التحريف، وتحليلاً لهذا الرأي ننظر إلى الكتب المقدسة الأخرى و نرى ماذا وعد الإله فيها؟، هل أقر بفناءها بعد حين من الدهر؟
 - في التوراة يقول الرب: (الى الأبد يا رب كلمتك مثبتة في السموات) مزمور 119: 89، نصيّاً تتفق هذه الآية مع آية نزلنا الذكر، لكن التوراة حُرّفت أيما تحريف، فربما نحن من يسئ فهم الآية.
 - وفي الإنجيل يقول المسيح: (إني الحق أقول لكم الى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى  يكون الكل) متى 5: 17، وهي آية صريحة تُقر ببقاء كلام الإله، يفهمها كل إنسان حسبما هواه.
 - وفي كتاب الأفستا يردد الإله: (نطقت بكلمتي تلك أبداً)، على الرغم من أن الزرادشتية أوغلت في التحريف إيغالاً.
 - وحتى النصوص البهائية بها كلمات مشابهه: (ثمّ احفظها عن التّصرّف فيما لم يدخل في ملكها).

إذن فالوعد ببقاء كلمة الإله وعداً مأثوراً منذ القدم، لكن الخطأ يقع عند تصنيف كلمة الإله على انها الكتاب المقدس. وتفادياً للمزيد من المنعطفات الفلسفية دعونا نتجرد من النصوص وقهرتها على النفوس، فالنصوص وهي موضع اتهام، لا تصلح ان تكون دليل تبرئة لذاتها، وقد أسلفنا من الأدلة التاريخية ما يُثبت تحريف الكلم عن مواضعه، وأن معاني النصوص الإسلامية قد تبدلت أيما تبديل.



أركان التعفن كما أوضحنا في تدوينة تعفن الديانة 1 هي: انحراف النصوص عن أصلها، وتفشي الجهل والانحطاط في الخلق-كما هو حال أغلب المسلمين اليوم-، وآخر الأركان وأكثرها إيحاشاً هو تمكن رجال الدين من المجتمع واستلائهم عليه، يحركون المجتمع بكلماتهم، يوجهونه كيفما رأوا، يخرجون على الناس من فوق منابرهم فيتشدقون بكلمات النبي وآيات القرآن يحرفون معناها كيفما يحلوا لهم، فهذا حرامٌ بين وهذا قطعاً حلال وكله بهوى رجال الدين-مثل تلك الفتوى التي تُحرّم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم! ثم تبيحها إن كان هناك مصلحة ما للمتدينين في التهنئة-، وهم يبذلون الكثير في سبيل المظاهر التي لا قيمة لها أصلاً فتجد اللحى والجلابيب والحُجُب والنُقُب صارت من ركائز الإيمان، و هم يَسُبون من لا ينحاز لهم أنه كافرٌ وجب لعنه(1) فتتسع الفجوة بين طبقات المجتمع، حتى صار التوقيع على نغمة الدين شغلة من لا شغل له من هؤلاء الدجاجلة المنحطون.

 حمزة الخطيب، وإلى يساره حسن شحاته،
من أشهر ضحايا التطرف المذهبي
أمّا الفرق الإسلامية التي أسلفنا بيان نشأتها، فهي هي في أفكارها وأُطُرها العامة، لكن النزاع فيما بينها صار منحطاً مقززاً يُكفّرون بعضهم البعض، بل ويسفكون دماء بعضهم البعض، كما هو الحال في الوطن العربي، حيث بولغ في العناد بين السنة والشيعة حتى رأينا جرائم بشعة كذبح حمزة الخطيب وحسن شحاتة باسم الدين!، أي دين هذا؟، تالله إنها الإنسانية قد نزعت من قلوبهم فصاروا وحوشاً بشرية، يقتلون النفس التي حرّم الله قتلها بغير حق، تراهم يتذابحون مُكبّرين مهللين رافعين رايات لا إله إلا الله، وهو برئ منهم، وما نلوم إلا رجال الدين الدجاجلة الذين آثروا التكفير، فكل شيخ يرى فرقته الفرقة الناجية وأن بقية المسلمين-الموحدين-كفرة هالكون إلى جهنم وبئس المصير!، وكأنما بُعث محمداً هلاكاً للعالمين، ويعللون ذلك بحديثٍ أحمق "هذه الأمة ستفترق على ثلاث و سبعين, اثنتان و سبعون في النار و واحدة في الجنة" (2). إجمالاً فهذه السياسة التكفيرية ستؤدي حتماً إلى انهيار سقف الدين فوق رؤوس معتنقيه.
___________________________
(1) وقد ورد في الآونة الأخيرة تعليلاً لسبّ الكافرين بما ورد في البخاري من قول أبي بكر-رضي الله عنه-لأحد الكفار: "امصص ببظر اللات".
(2) هذا الحديث صحيح نصفه الأول فقط-الذي يخبر بانقسام الأمه، وقد حدث بالفعل-أما النصف الذي ينبئ بهلاك معظم المسلمين في النار فهو ضعيف. ويقول فيه ابن حزم: إنها موضوعة لا موقوفة ولا مرفوعة. هذا بجانب ان المتن فاسد لا يصح الاعتماد عليه.

  ،

التوصيف الكامل لحالة المسلمين لا يتم إلا بوصف حالة فريق "مسلمين على البطاقة"، هؤلاء الذين لا يعرفون من الدين سوى انتماءهم إليه ونيفٍ من فروضه، يرتكبون معاصيهم بدعوى أنهم "ناس عادية" ولا يحكمون الدين كثيراً في حياتهم، على الرغم من ذلك فهم إليه مُتعصبون. هؤلاء لم يحسموا أمرهم بعد من الدين فكرياً ولا عقائدياً، ربما ينحرون دينهم عمّا قريب إذا وجدوا في الإلحاد مرتفقاً ينجيهم من عبء الدين، وربما يتطرفون يوماً ما انجرافا وراء دعاوي "أغيثوا دينكم" و"فداك أبي وأمي يا رسول الله"، لكن الحتمي أن بقاءهم على هذه الحال ليس إسعافاً للإسلام الذي يختنق إثر تعفنه.

إذن ما هي المرحلة القادمة للإسلام؟، يُعجبني هنا ان أذكر حديث رسول الله-صلّى الله عليه وسلم- "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ. حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ فَمَنْ؟"(1) فلذلك الحديث دلالة فحواها أن ما حلّ بالمسيحية سيحلّ بالإسلام، نعم سيحلّ بالإسلام، فطرقات الإلحاد قد سُمعت مدوّية في المجتمعات الإسلامية، ولو سُئلت لقلت أن الحق مع الملحدين، فهم يعاصرون الإسلام المتعفن، يعانون ويصرخون أنى نجد أحداً يُحدثنا بعقله كما نُحدثكم بعقولنا فلا يجدوا سوى هذا الهراء من الخطابات الدينية المؤذية، فقد تحقق فينا قول أبي العلاء المعري " اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين ... وآخر ديّن لا عقل له". هنا يبرز التساؤل, لماذا يتهرب المسلمون من حلبة الجدال العقلي؟، لعل السبب أنهم يؤمنون بنصوصٍ مُحمّله بالخرافات والمتناقضات التي لا تقبلها عقولهم وتُسلّم بها قلوبهم إيماناً واحتساباً، فكيف يواجهون العُقلاء وهم قد طَمَسوا أنوار عقولهم بتلك النصوص.

تُثير استفزازي تلك الحلول المطروحة من علمانية وليبرالية، فما هي إلا أدوات جديدة لـ"رجال دين"-من طراز آخر-سيضغطون بها الناس مجددا في دائرة الدين، لكن هذه المرة الدين مفصول تماماً عن السياسة وربما عن الحياة، فما أعظم هذا الدين! لأصحاب هذه الدعاوي أن يفهموا أن الدين والسياسة متجاوران ما بقيا، فالدين هو وسيلة الإصلاح الفردية والسياسة هي وسيلة الإصلاح المجتمعية، وكلاهما حائجُ إلى الآخر، متشابكان ضروريان لنجاح بعضهما البعض، لذا أرفض القول بأن "الليبرالية ستار الإلحاد" فالحقّ ان "الليبرالية هي ستار الدين" فهو الأحوج للإستتار. ولعل الحوارات الإعلامية التي تدور بين الفصيلين-العلماني، الإسلامي-هي التي ستكتب كلمة النهاية في سيناريو الإسلام، فالظهور الدائم لهذا الحوار بين المتطرفين يضغط على المجتمع، ويخفي في طياته الكثير من الآراء المختلفة، التي هي أقل تطرفاً من المتنازعين، وذاك يقيناً يُنفّر الناس من الدين.

على الجملة، قد لا يفيد مطلقاً الإقرار بقدوم الإلحاد من عدمه، لكن المهم هنا أن نقر بأننا بصدد دينٍ متعفن، علينا أن نسارع في إسعافه كلما أمكن، ربما أكون متشائماً أكثر من اللازم لكن ظنّي يغلبني على أنه في القريب العاجل سينجلي الإسلام من هذا العالم، بلا رجعة.
_________________
(1) أخرجه البخاري ومسلم وهو صحيح، والضب هو حيوان يعيش في الصحراء والبراري، ويضرب المثل بجحره في الصغر والضيق.


ملحوظة: في السياق تعرضت لبعض الأحداث التاريخية التي وصلتنا عبر نصوص دينية أو مقدسة، فآثرت الإبقاء عليها كما هي دون التعرض لمدى صحتها.

الجمعة، 28 يونيو 2013

تعفن الديانة 3: المسيحية

ننتقل الآن بسطورنا هذه إلى مثال آخر على الانحطاط الديني، وهو المسيحية. أنوه مبدئياً انني لا أنتقص من قدر الدين في أصله بقدر ما أنتقص فيما عابه وصابه من تحريف وتعديل عبر الزمن ليكون ضامناً لبقاء السلطة في أيدي ممثليه.

الاضطهاد الروماني للمسيحين.
جاء السيد المسيح ببشارته السمحة، وتعاليمه المتسامحة، فاضطهده أهله من بني إسرائيل حتى صُلب، والتهمت نيران الاضطهاد أرواح النصارى من بعده، فقد اضطهدهم الرومان بداية من عهد نيرون (1)، حتى عهد قسطنطين العظيم الذي كفل للنصارى حرية العقيدة أخيراً. فسرعان ما خلعت المسيحية حُلّة الاضطهاد البالية وارتدت حُلّة النزاع العقائدي الزكية، فانعقدت المجامع المحلية والمسكونية (2) التي ناقشت أمور العقيدة ووضعت قوانين الإيمان، ثم عَقب ذلك بالضرورة ظهور جماعات المهرطقين (3) وكثرت المنازعات شرقاً وغرباً. وصل الأمر في بعض الأحيان للتكفير بين المتنازعين، وأحياناً بقيَ جدالاً معتدلاً.

وكما هو سائد بين الأديان، تعفنت المسيحية تحت وطأة الجهل، ولم يكن مخاضها من ذلك الطور سهلاً يسيراً، فلقد خرج الأمر عن مجرد سيطرة رجال الدين وامتد إلى تعذيب واحراق وقتل وتشريد في كل أنحاء العالم المسيحي، برروا موقفهم بكلمات موجعه من الكتاب المقدس مثل "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما. بل سيفا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه ...." (متى 10-34) فاندفع الناس ينفذون كلمات الإله، يقتلون ويسفكون الدماء، لاختلاف في الدين أو العقيدة أو المذهب أو حتى في الرأي، وعلى العموم فلقد تعفنت المسيحية إلى حد يثير الاشمئزاز على أيدي الرهبان والقساوسة، حتى قال أحدهم "لم يرَ التاريخ بهائم متوحشة، أشد افتراسا وقساوة من المسيحيين بعضهم لبعض" (4)، وكما أبنّا أنه كلما ضاق الخناق الديني على الناس، أبقوا على دينهم ما دامت السيطرة الدينية قائمة، ويبقى مفترق الطرق قائماً،

  • الطريق الأول هو التسرب إلى ديانة جديدة يجدون فيها براحاً كافياً لممارسة حياتهم اليومية بعيداً عن صداع النصوص وتزمت رجال الدين، كما كان من أهل مصر قبيل الفتح العربي، حيث أنهك مصر الانقسام المذهبي بين الملكانيين-كنيسة بيزنطةاليعاقبة-كنيسة الإسكندرية-، لذا أسرف الحاكم البيزنطي المقوقس في فرض العقوبات على اليعاقبة والتي بلغت حد الإحراق والتعذيب، فتجهزت نفسية المصريين للهروب من هذا الدين، لذلك لما جهز عمرو بن العاص لفتح-غزو-مصر، تحمس له المصريون واعانوه على الروم خير معونة، وبعد الفتح أسلم منهم الكثيرين وهجروا دينهم القديم من دون أدنى ندم.
  • محاكم التفتيش
  • أما الطريق الثاني امام من تعفن دينهم فهو طريق الإلحاد، ولكن الإلحاد يأخذ وقتا طويلاً كي يتأصل في المجتمع وكي يقرر أهل الديانة أنهم سأموا فكرة الإله التي تجبرهم على تلبية أوامر رجال الدين، وتلك السكة سلكتها أوروبا، حيث بلغ التعفن ذروة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً-حتى سُميت تلك الفترة بعصور الظلام-، فقد تدخلت الكنيسة الكاثوليكية في حياة الناس اليومية وفتشت عن أسرارهم، ونهبت أموالهم، و ابتدعت بدعاً عجيبة لفرض السيطرة مثل صكوك الغفران-صكوكاً يشتريها الناس لتغفر ذنوبهم-، وأُنشئت محاكم التفتيش التي تقوم على كشف المخالفين لآراء الكنيسة ومعاقبتهم والتي تُدلّل على عظم سلطان رجال الدين في ذلك العصر، و النتيجة الحتمية لهذا الانحطاط أن هرب المسيحيون من دينهم، بدأت دعوة الإلحاد بهمسات خافته في بادرة الأمر، ثم اندفع الناس من بعد ذلك أفواجا يعارضون آراء الكنيسة ويخرجون عليها، حتى وصلنا اليوم إلى هذا المجتمع الأوروبي المعاصر الذي لا يلقي بالاً إلى رأي تراه الكنيسة لا في كبيرة ولا في صغيرة بل ويروج لفكرة الإلحاد عند المجتمعات الأخرى لأنه يرى فيه طوق النجاة من قفص الدين المتعفن.
                                                                    
(1) قام نيرون بإحراق روما لمزاج خاص في نفسه، ثم ألصق التهمة بالمسيحين فعذبهم وقتلهم، ومن ضحاياه بولس وبطرس الرسولين.
(2)المجمع هو اجتماع لرؤساء الكنائس المختلفة في نطاق ما لبحث قضايا تخص الكنيسة او مناقشة بدع حلت محلها من الإيمان. وبكون المجمع مسكوني أي يشمل العالم كله شرقا وغرباً او يكون محلي أي يشتمل فقط على نطاق محدود. والمجامع فكرة يهودية الأصل.
(3) الهرطقة في المسيحية مثل الزندقة في الإسلام، كلتاهما تصف أفكار الشخص أو الجماعة التي تحيد عن المعتقدات السائدة.
(4) القائل هو البابا إمياثوس مارسلانوس، ونقل عنه هذا القول د.إدمون رباط في كتابه المسيحيون في الشرق قبل الإسلام.

  ،


أخيراً، أنوه على أنني لم أُكثر من الأمثلة-على الرغم من كثرتها-، فلقد آثرت أن أتحدث عن المجوس والنصارى فقط، لأسباب عدة منها أنهم جوار المسلمين في الشرق الأوسط، ومرت ديانتيهم بظروف مطابقة للظروف التي مر بها الإسلام الذي هو محل بحثي أصلاً.
   

        يُتبع ...  

                   تعفن الإسلام.

ملحوظة: في السياق تعرضت لبعض الأحداث التاريخية التي وصلتنا عبر نصوص دينية أو مقدسة، فآثرت الإبقاء عليها كما هي دون التعرض لمدى صحتها.

تعفن الديانة 2: الزرادشتية

لعل خير ما نقوم به الآن، أن نتابع تطور ديانة أو اثنتين من تلك الديانات التي تعفنت فنفهم ما عُني بهذه الأسطر السوابق. وخير مثالاً نبدأ به يكون الزرادشتية-أو المجوسية-فهي ديانة قديمة تعفنت، وهرب معظم أتباعها منها، حتى أنه في عصرنا نكاد نجزم بأنه لا يوجد كيان لزرادشتيون معاصرون.

ولد النبي زرادشت في أذريبيجان بـ حوالي ستمائة عام قبل الميلاد، ولم يكن انتصاراً لدعوته إلا بعد أن هاجر لـ بلخ حيث آمن به هنالك الملك وحاشيته، فأخذوا على عواتقهم مهمة نشر الدين، حاربوا وسفكوا الدماء حتى صار دينه ديناً رسميا لإيران. في تلك الآونة كان الوحي قد أتمّ له كتابه المقدس افستا والذي ينطبق في تعاليمه والإسلام من حيث القدر والبعث والصراط المستقيم، وعلاقة العبد بربه، وحتى في وصف زرادشت لنفسه بـ " أنه رسول الله بعثه ليزيل ما علق بالدين من الضلال، وليهدي إلى الحق".



النبي زرادشت
لكن تعاليمه القويمة لم تصمد أمام نحت الزمان، فنالتها الأيدي العابثة لتُحرف ما فيها من نصوص، وجاء من كل حدب وصوب إماماً للناس ينسّخ آيات زرادشت بحُجَجٍ مختلفة، مثل دعوة ماني الرهبانية-ربما تأثر بالمسيحية-، ودعوة مزدك (1) الاشتراكية التي بلغت حد مشاركة الزوجات.

ولعل الأمر امتد لأكثر من ذلك، حين كَثًرَ الجهل بين الناس وشغلهم الاهتمام بمظاهر الدين، فقهرهم الحرص على اتباع النصوص الدينية التي كانت مكتوبة بلغة فارسية قديمة لم يفهمها معظم المجوس في ذلك العصر، لكنهم أصّروا على اقتناء كتب الشروح ونفذوا ما فيها بحرفيته، وبالغوا في الاعتقاد بوجود إلهين (2)، و تحولوا من مجرد تقدير قيمة النار إلى تقديسها ثم عبادتها-لذلك يبلغ الظن عند معظم الناس أن المجوس هم عبدة النار-، وعَظُمَ سلطان رجال الدين فغلبوا على الحكم غلبتهم، وما ان تقهقر سلطان النظام الحاكم على القلوب حتى سقط الفرس غنيمة يسيرة في أيدي العرب لما هُزموا على أيديهم في موقعة القادسية، وكما أبنّا أن الضامن الوحيد لبقاء الأديان المتعفنة هو سلطة تكره الناس، لذا-وقد أُهلكت هذه السلطة- هرب المجوس من تلك الديانة المتعفنة إلى الدين الجديد!، صحيح أن بعضهم أبقى على دينه، لكن ذلك لم يكن إيماناً بقدر ما كان تعصباً عرقياً.
                                                                                          
(1) لـ مزدك كتاباً يسمى زند، لذا سُمّي أتباعه بـ زندي كاي ثم عُربت الكلمة لـ زنديق، وبعد ذلك حورها العرب لتشمل كل ملحد.
(2) حيث بالغوا في توصيف الجانب المظلم من الكون بصفة الألوهية وبرروا ذلك بآية "إن الذي ينظر نظرة الوعيد غير الذي ينظر نظرة الرحمة" من كتاب "الأفستا".


        يُتبع ...  

                 تعفن الديانة 3: المسيحية .
                     تعفن الإسلام .


ملحوظة: في السياق تعرضت لبعض الأحداث التاريخية التي وصلتنا عبر نصوص دينية أو مقدسة، فآثرت الإبقاء عليها كما هي دون التعرض لمدى صحتها.

تعفن الديانة 1

كان مرور نحو 570 سنة على المسيح كافياً لفساد العقيدة النصرانية، كما حدث للإسلام فيما بعد، وكما حدث للديانة الزرادشتية والبوذية فيما قبل. ذلك أن عقيدة الألوهية المجردة عن المادة والأجسام عقيدة صعبة المنال لا يدركها إلا خاصة الخاصة، وإن أدركوها فسرعان ما ينسونها ويميلون إلى الوثنية المألوفة الموروثة، لهذا أفسد العرب دين أبيهم إبراهيم وملأوا الكعبة بالأصنام. وأفسد اليهود دين موسى فاتخذوا عجلاً جسداً له خوار إلهاً لهم، وقالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وهكذا. فالألوهية المجردة والاستمرار على اعتقادها شاقة عسيرة. وقيل إن الإنسان ميال دائماً إلى التجسيد، لهذا فسد الدين في كل أمة من الأمم، واحتاجت إلى نبي جديد(1). وجُل الأديان القديمة فسدت بطرق مشابهة، فالزرادشتية فسدت ونسي المجوس كلام زرادشت وتزوج الملوك من بناتهم واخواتهم، اما الهندوسية فقد حول أهليها المجتمع إلى طبقات وأفرطوا في الوثنية بأمر الدين!

والراجح أن الأديان كلها تتمحور بنفس الطريقة، وتمر بنفس الأطوار، تبدأ بسيطة لا غلو فيها، تدعمها آراء نبي أو حكيم، ثم تتعاقب عليها الأجيال المؤمنة، ويُبذل الدم في سبيل نشر الدين، ويَتم نوره على بقاع الأرض فيدخله الناس أفواجاً. ثم يحين طور الترف العقائدي فتظهر على الساحة المبارزات العقلية والكلامية حول صفات الإله والقضاء والقدر وخلافه، وتجد ذلك النزاع تارة هادئاً لا يخرج عن نطاق المجادلات والمناظرات الحادة، وتجده تارة عنيفا قاسيا يقتتل الناس في سبيله.

 يتفشى أخيراً الجهل والانحطاط في عوام الناس، يتسارعون في تلبية دعاوي الرجوع إلى أصل العقيدة فيأخذهم النص أخذته ويضيع بين سعيهم الجوهر، يقهرون أنفسهم لتطبيق نصوصاً لا يفهمونها ظناً منهم أنها الخلاص، يتناسون أن تلك النصوص قد حُرفت واكلتها السنون، يبررون في كل ليلة نكبتهم ببعدهم عن الدين، ولرجال الدين في ذلك الطور خصائص بشعة، ندقق فيها لاحقا.

المعهود أن ذلك الحال قد يمتد لقرون! شريطة وجود نظام حكم قوي يستمد قوته من هذا الدين، يُكره السواد على ذاك الدين المتعفن ويأخذهم به، ولا يتخلص المجتمع من ذلك الجهل إلا بظهور دين جديد يحرك في الناس قلوبهم، ليندفعوا من جديد في نفس العجلة حتى يفسد عليهم الدين-الجديد-، أما إن لم يكن هناك دينا جديداً، تجد طَرقات خفيفة مرتعدة على باب الإلحاد في بادئ الأمر، وما أن يذيع في الناس خبر الإلحاد ربما وجدت مجتمع بأسره يحلق نحو الإلحاد، الذي هو مفتاح التحرر من قبضة رجل الدين القاسية.

ذلك التصور-السالف ذكره-حول تمحور الأديان لا يكفي لدراسة تدفق الأديان بعمق، ذلك أنه مما يؤثر في الدين طبيعة الشعب الذي يدين به والبيئة التي ينتشر فيها ذلك الدين وربما أثّرت بعض العوامل كالحروب والنكبات والمجاعات وكثير مما لا يمكن إجماله في سطورنا القليلة، لكن ذلك التصور يعطينا مؤشرات واضحة وبسيطة عن المراحل التي يمر بها كل دين عموماً، فهو كلاسيكي بقدرٍ كبير، يتجاوز عن دقائق الأمور ويفند في عمومها، فتخرج منه بمؤشرات عامة صحيحة تُدلّل على حالة وطبيعة الدين الذي أنت بصدد تفنيده.
                                                                                            
(1)   مقدمة كتاب يوم الإسلام لـ أحمد أمين، نقلت تلك السطور-وغيرها-كما هي، فلم أجد أليق منها ليعبر عما في خاطري.


       يُتبع ...

                   تعفن الديانة 2: الزرادشتية .
                   تعفن الديانة 3: المسيحية .
                   تعفن الإسلام .

الثلاثاء، 25 يونيو 2013

قصيدة الوحي












































أروع ما شعرت، و الأقرب إلى قلبي.

قصيدة الحج

غزلٌ عفيف، أو عشق إلهي أو ما تشتهون

لماذا الوحي ؟


الوحي كما حدّهُ ابن منظور في لسان العرب "الوَحْيُ: الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك. يقال: وحَيْتُ إِليه الكلامَ وأَوْحَيْتُ."، وعرّفه ابن فارس موجزا فقال في مقاييس اللغة " فالوَحْيُ: الإشارة
.والوَحْي الكتابُ والرِّسالة."، وأراحنا الفيروز ابادي في قاموسه المحيط حين قال "الوَحْيُ: الإِشارةُ، والكِتابَةُ، والمَكْتُوبُ، والرِّسالَةُ، والإِلْهامُ، والكَلامُ الخَفِيُّ، وكُلُّ ما ألْقَيْتَهُ إلى غَيْرِكَ، والصَّوْتُ يَكُونُ في النَّاسِ وغَيْرِهِم، "فلقد أوضح في غير تكلف جميع معاني كلمة الوحي.

في صفحات كل معجم، ترى كما هائلا من السطور التي تصف و تفند و تبحث في أصل كلمة الوحي و دلالاتها و ما تعنيه و كيف بدأت سطحيةً يقصد بها الكتابة ثم باتت عميقة ثريه يقصد بها إسرار الإله بكلماته و خطراته إلى عبد من عباده الصالحين المختارين، و كيف صارت هذه الكلمة تخبر بالكيف، ففي معناها أن الإلهام من الله لعبده يكون من خلال ملك يسمى جبريل، و كأن الله لا يتكلم إلا من خلاله، لكنها اللغة و العادة السائدة فيها، تبدأ كلماتها سطحية تصلح لوصف العديد من الأشياء المتشابهات ظهرا المختلفات بطنا، ثم يسود بين السواد تحديد معناها في شيء أو إثنين من تلك الأشياء، و عبر العقول المختلفة و الثقافات المندمجة تتحدد للكلمة أُطُر و مفاهيم و كيان خاص، و ربما يدخل فيها اللحن، أو يطرأ عليها تعديل فيجعلها أكثر ملاءمة لمحلها، أو يفسدها أصلاً.

 تلك الأطوار المختلفة التي يمر بها الكلام كله –إلا قليلا-تجعل مهمة الباحث في أصل الكلمة و معناها معقدة عسيرة، حتى و إن نظرت إلى المعاجم و القواميس، فذاك غير كافٍ، فالباحث في حاجه ماسه لأن يعرف متى بدأ الاصطلاح و كيف تعدل و لماذا تبدل، و تلك الأسئلة لا توجد لها إجابات شافيه في صفحات المعاجم، بل تجد الإجابة الكافية في كتب التاريخ، إي و الله في كتب التاريخ، فهنالك تقرأ الأخبار المتفرقة و تعلم بكل جديد صار في المجتمع، فتقهم لماذا عدلوا الكلام؟، و ترى بعينك أمورا كانت تمثل أساسيات الحياه اليومية في عصر من العصور و باتت ترفيهيه في عصر تالٍ فتقهم لماذا استغنوا عن كلمة ما؟، ولماذا بدلوا هذه الكلمة؟، لتصير لغتهم أكثر ملاءمة لحياتهم اليومية لا لحياة أجدادهم.




حتى لا أُطيل في الاستطراد وراء الكلام وتحويراته فذلك بحث ضخم لا يسعنا المجال لذكره، فهلم بنا نعود إلى مبتدأ القصد و هو الوحي، كلمة بدأت بسيطة سطحيه عند عرب الجاهلية الأقدمين-أو ربما ورثتها العربية عن الآرامية-، فقالوا أوحى أي كتب وقالوا أوحى أي أخبر وقالوا أوحى أي أشار، ولأنهم أسياد الكلام وخير من يتقن تحويره وتحويله، تبدلت الكلمة، فأكثروا من معانيها فصارت تعني النّار والمَلِّك والوَغى وأصوات الناس وغير ذلك كثيراً، لكن قبيل الإسلام-قبله بقرن أو ثلاثة قرون-، بات للكلمة جوهرا، و باتت تستخدم في سياق معين، ذلك أن العرب قد كثر احتكاكهم بأصحاب الديانات النبوية-أي التي تقوم عقيدتها على النبوة- من مجوس و يهود و غيرهم، وأصحاب ديانات البنوة-تقوم على ابن الإله-كالنصرانية والمصرية القديمة، فالنصارى كان لهم كنيسة النساطرة شرقي الجزيرة و كنائس الروم شمال غرب الجزيرة لا تحصى فسمع منهم العرب، و المجوس و قد حكموا بلاد الفرس فتعاملوا مع العرب في التجارة فسمع منهم العرب أيضا، أما اليهود فغنيٌ عن الذكر أنهم سكنوا الجزيرة جواراً مع العرب، فانتقل اللاهوت العبراني بأسره إلى الفكر العربي-وذلك قبل الإسلام و خصوصا قبيل البعثه-و تعرف العرب من سبل شتى على الوحي، الوحي الإلهي بالأحرى، لم يكن الأمر بهذه السطحية و لم ينتهي عند ذلك الحد، ففي صميم ديانة عرب الجاهلية كانت هناك مناح شتى للنبوة و الوحي، فكان التصور أن الكهان يتلقون أوامر الآلهة عبر معابدهم المتفرقة في أرجاء الجزيرة، و كان منهم –حسبما اعتقدوا-الأنبياء يتلقون الوحي من اللات و العزى و الله-إله المطر حينئذ-وغيرهم ممن عبدوا من الآلهة، نذكر من هؤلاء مسلمة بن حبيب الحنفي (*) و الصحابي-الذي كان أبوه يُعِّدَهُ للنبوة-جبير بن زهير بن أبي سلمى(**) وحنظلة بن صفوان(***) وخالد بن سنان من بني عبس(****) و غيرهم، ناهيك عن أنبياءً عددهم القرآن كانوا في جزيرة العرب كصالح و هود و شعيب-عليهم السلام-، فكثر اعتقادهم بالوحي و كثر وصفهم له، و تحددت معالم الكلمة و نضجت، و بانت المسافة بين معناها الأخير و ما بدأت به، فصاروا جميعٌ-إلا قليل-يقصدون بها ذلك الاتصال بين الإله و البشر المختارين، لينطقوا بكلامه و يبشروا ببشاراته و يتوعدوا بوعيده، مثل الأنبياء و الكهان و الرسل ثم القديسين و رجال الدين من بعد.

ثم جاء الإسلام أو قل نزل القرآن على محمد–عليه الصلاة والسلام-فأخبرنا في الآية الثالثة من سورة النجم "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" وكثير من المواضع الأخرى التي لا يسعنا إجمالها، لكن الله ثبت وأكد استخدام الكلمة في محلها الجديد الذي أسلفنا توضيحه، ونحن الآن في حل من مناقشة الآراء المختلفة في كيفيات الوحي وآونته، ذلك أن سعينا أصلاً وراء فهم كلمة الوحي في ذاتها لا وراء فهم الوحي الإلهي في الإسلام، فتلك قضية لا يسعنا السعي وراءها هنا.

نستخلص مما سلف ذكره أن معنى الوحي بدأ بالكتابة ثم صار المشافهة فالإسرار وأخيرا الإسرار الإلهي، لكن هل يحق أن تستغل كلمة الوحي في غير موضعها الأخير؟، فليسل المرء نفسه كم من كلمة عُدلت وبدلت لكنه ظل يستخدمها في موضعها الأول أو قل في أحد مواضعها الأولى؟ إجابة ذلك السؤال تشفي البواطن وتغني عن اللغط.

فلذلك سميتها بالوحي، لأنها وحيا بكل ما تحمله الكلمة من معان، فهي كتابة، وهي إلهاما ربانيا، وهي إسرارا بيني ونفسي، فهي خطراتي الخفية التي لا أفصح بها على الملأ، وهي الحق الذي أرى، إن شئت قل هي كـ"الوحي بل أقدسِ و أطهري".(*****)


 (*) اسمه الشائع مسيلمة الكذاب.
(**) هو أخو كعب بن زهير صاحب قصيدة البردة والتي ألقاها في مسجد الرسول وحضرته ومطلع القصيدة:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ                    مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
(***) قيل أنه نبي الله إلى أصحاب الرس حسب الآية: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُود) ق-12
(****) يشتبه أن النبي قال فيه "ذاك نبي ضيّعه قومهمن رواية ابن عباس، رواه الطبراني وابن عدي.
(*****)هذه الجملة مقتبسة من البيت الأخير من قصيدة الوحي خاصتي.

المراجع:
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي، الطبعة الثانية 1993 طبعة جامعة بغداد.
لسان العرب لابن منظور الأفريقي (المصري)،القاموس المحيط و مقاييس اللغة.