هؤلاء الذين يصرخون في وجوهنا بلا رحمة، يتهمنونا
بالتعالي والتكبر، يشيرون باصابعهم إلى الاقتراحات المتاحة، يخيروننا بين الاطروحات
الموجوده بالفعل، ثم يبصقون على رفضنا لكل المعروف والمعهود!
هؤلاء يجهلون ويدبرون المكيدة الكبرى، يجهلون
ان المتاح ليس بكل شئ، واننا اصلا نرغب فيما يسمو كثيرا عن متاحاتهم اللعينة. ويدبرون
المكيدة الكبرى التي قد ننخدع بها فنلزم الصمت، فنتحول إلى نسخ منسوخة من الاخرين الموجودين
هاهنا.
،
كتاباتي كمحيض فتاه، تباغتني فجأة. اكون متربصا
بانهيال سيل الكلمات عليّ. لكنه حينما تتخمر الفكرة في رأسي فيطرد جزء منها ككلمات
تود لو سطرت، تتخدر اطرافي ولا اصير قادرا إلا على مواكبة السيل، اكتب دونما شعور مني
بالوجود إلا كقلم يسطر الكلمات، إلا كأنني انا الكلمة التي تُكتب، لا كأنني كاتب متغطرس
كما يبدو من بعيد.
لكنني بعد ان اكتب، انظر لكتاباتي، فاصرخ في
الفضاء:
غريب... ومفاجئ ايضا... مدهش!
غريب... ومفاجئ ايضا... مدهش!
كيف، وبأي حق، بحق من؟ احتالت هذه الافكار إلى سطور. هذه الأفكار التي كانت تفت لتوها في رأسي. وتخز مؤلمة حارقة. كيف تحولت إلى كلمات مسطورة على هذه الشاشة؟ لماذا لم تحترق الشاشة تماما تأثرا بهذه المأساة وهذا البؤس. كيف تستطيعون النظر هكذا بلا تعب، وبلا هم يحرق الواحد منكم؟ ألأنكم اكثر تماسكا مني؟ الأنني مريض يهول من شأن كل شئ؟ أم لأنكم مشغولون بتفاهات؟ اذا انتم المسرفون وانا المعتدل. انتم الموهومون عن الحق المبين، عن الألم. واأنا المعتدل في الالهاء. استوفي كل آلامي حقها من الوجع، لذا تجدني اسطر واكتب، ولا واحد منكم يكتب.
وأنا على الرغم من
كوني كاتب، فشأني قليل...
ان قدري في هذا الوجود هو قدر حذاء. انني اصلا
بلا فائدة، وبلا قدرة على احداث ثمة تغيير، وان التغيير الذي قد احدثه، ليس بقيمة.
لان وجودي اصلا وجودا تافها، مثل فكرة تدور في رأس كاتب، يدسها بقلمه في ورقة، ثم يقذف
بالورقة إلى المرحاض. أنا قاع ذلك المرحاض. أنا وأنتم بالمناسبة. ساحرص دائما على ان
اهينكم معي. لانني لا اود ان اقول انني حقير، ويسهل علي تماما ان اقول نحن حقراء.
وهذه الحقارة، تُثير آلاما، تكوي جلدي،
وتعتصرني...
بصراحة، انا اتلذذ بهذا الألم. ولا اود ان يغادرني
بمقدار فرسخا واحدا. لقد صرت احتضنه، اقبله قبلات لاذعه فيحرق حلقي بمرارته. كذلك،
استطيع ان اقول، انني... اشتهيه. اعي ان كل الشهوات المعنوية بالأصل آلام مادية. لكن
هذا شيئا مستقلا تماما. فهو ألم معنوي، لكنه لسبب ما، ألم لذيذ. استوعبه، اتلوع بسببه،
لكني ارغب في ان لا يكف عني، وابحث عن اسبابه لكي اضمن استمراره، اقف على عتبته ليل
نهار حتى لا ينقطع ابدا.
،
الآن، فهمت،
الآن، فقط، فهمت لماذا...
انها الثورةعلى كل نظام، انه الاحتجاج على الواقع المؤلم. فأنا مثل قرد، غُلقت عليه ابواب قفص، حرمته من بريته الاصيله. فيراه كل من يمر في حديقة، وهو يصرخ. لكنهم، مع ذلك، سيحرصون على ألا ينصتوا لفحوى صراخه المؤلم. سيتبادل العشاق قبلاتهم حتى يبقى هياجه في الخلفية. لأنهم يتجنبون الألم الذي يبثه فيهم، بافعالهم التافهه. ولأنهم اصلا لا يقدرون على تحمل قدر صغير من المأساه يُمكن ان يُحمل في كف طفلة صغيرة كالذي أحمله انا. ولأن احدا لم يستفسر عن سر اتصال الصرخات، لان احدا من المارين في الحديقة لم يلتفت لقرد. فلا يحق لكم، ايها المخبولون، ان تسألونني لماذا استمر انا في الكتابة.
ان اكثر ما
يخطر ببالي الآن، هو ان الانسان منا يحوي طاقة هائلة، طاقة عظيمة. اكتسبها من
الانفجار العظيم، كبقية الغبار الذري. الانسان مثل نجم مهول ضخم، يشع حرارة تكفي
لان تحرق الكواكب التي توشك على الاقتراب منه. ثم هو يُمني نفسه بان يحظى بالطاقة
ابدا. بان يخلد مع طاقته او تخلده طاقته. فمثلا يكتب، يحلم جزافا بان كتابته التي
كتبت على حجر، لن تطمس ابدا. مع اننا في رحلة من والى العدم. مع ان العدم ولَّد من
بعده كونا انشأ حياة، منحتنا من بعدئذ استيعابا عاجزا، يحلم بان يخرق الحلقة. وعيا
يتمنى ان تنكسر اي عقدة من المسبحة التي يدور فيها من والى العدم حتى يبقى، حتى
يستمر. وهذا غير متاح. وهذا غير وارد، بحكم طبيعة الاشياء. لكننا على عجزنا،
محملون بالطاقة. بالحيوية، بالفكرة. لدينا يد ولدينا عقل. لدينا مدية حادة تدور
بسرعات فلكية، لتنتج الافكار، الافكار المدمرة والاشد فتكا. مثل القتل،
والاشتراكية. لدينا الاعمال العظيمة مثل الابراج وقاعات السينما. كذلك، اود ان
اؤكد، ان هذه الطاقه مردها إلى العدم. ستفنى في يوم ما، لا حين نهلك فقط، لا حين
تذرو الريح رفاتنا. بل حين نستفذ طاقتنا بالتدمير اللازم. فهذه الطاقة تحرقنا من
الداخل، وهي طاقة مؤلمة جدا، طاقة خبيثة، لا تريد ان تتمهل إلى يوم المنية، بل
تريد كل ذرة منها ان تنصرف عن البدن، فالبدن لها هو السجن، وهي تريد ان تتحرر، ان
تعود لمنشأها، العدم، لذلك هي تقاتل كي تتحرر. هي تفتك بنا في الباطن حتى ندمرها.
يجب ان ندمرها اشد واروع تدمير. ان نفجرها بالكتابة والفن. بالعلم والفلسفة. بالخيانة
والقتل. لا بد ان نسفك هذه الطاقة، لان دينا يقع على عاتقنا. لانه كما منحتنا هذه
الطاقة حياة، علينا ان نمنحها الدمار الذي تستحقة. وان قصرنا في هذا الفعل،
فسننسحق تحت طاقات آخرين، يؤدون دورهم بايجابية وتميز، ينهالون علينا بطاقاتهم
الفجة، فيضغطوننا ويقمعوننا باستمرار. لاننا ضعفاء، نود ونحرص ونخاف. وهم لا
يفعلون شيئا إلا الدمار اللازم.
اذا كان لي غرام
وشغف، فشغف بالفكرة. الفكرة التي لها احيا. التي ابدد لاجلها طاقتي. التي ابذل في
سبيلها حياتي. لو ان لي ثمة حزن وشجن، فلان فكرة واتتني، فلان فكرة واتتني لكنها
لم تسطر، لم تحد بحد القلم. لان كثير من الافكار التي تضربني في رأسي، افكار جامحة
قاسية، واسعة كمحيط، لا يستوعبها عقلي العاجز، حتى يروضها قلمي المحتال في بضع
سطور. يؤلمني وبشده، ادماني للفكرة. فلو تصورتم لخر الابله منكم ساجدا امام ملكوت
الفكرة. فانها حين تضرب: لا نقدر ان نرد، فقط سنتحاشى، سنحاول ان نجعل الامر يبدوا
طبيعيا، بالرغم من اننا في اعماقنا...
نصرخ، نسب ونلعن الله.
اننا، بكتاباتنا،
نحاكي الحلم. فكما ينسج العقل الباطن خيالات تبدو شريدة، منفصلة مستقله مبعثرة
تماما. في حين هو اصلا يُنشئ رموز الحلم على اساس غير اعتباطي. في حين هو ينتج
صورا معينه تحمل لنا، لمشاعرنا احزانا وهموما كثيرة وهائلة، لان الصور اصلا مرتبطة
في وعينا بتجارب شعورية. فاننا نستبلغ ونستوعب الرسالة كاملة في نهاية الحلم.
عندما يضع نقطة النهاية، ويكتب "تمت" نهلع إلى اليقظة، نستيقظ مذعورين،
من هول الواقع لا من روعة الحلم. كذلك كتاباتنا، حينما تنتهي، فاننا نفزع ونختل،
لان الواقع مر، والكتابه حتى حين تحكي المأساة تكون حلوة لذيذة