الأحد، 9 أغسطس 2015

افكار غريبة ومتناثرة وكثيرة، واتتني عن الكتابة



هؤلاء الذين يصرخون في وجوهنا بلا رحمة، يتهمنونا بالتعالي والتكبر، يشيرون باصابعهم إلى الاقتراحات المتاحة، يخيروننا بين الاطروحات الموجوده بالفعل، ثم يبصقون على رفضنا لكل المعروف والمعهود!

هؤلاء يجهلون ويدبرون المكيدة الكبرى، يجهلون ان المتاح ليس بكل شئ، واننا اصلا نرغب فيما يسمو كثيرا عن متاحاتهم اللعينة. ويدبرون المكيدة الكبرى التي قد ننخدع بها فنلزم الصمت، فنتحول إلى نسخ منسوخة من الاخرين الموجودين هاهنا.
،

كتاباتي كمحيض فتاه، تباغتني فجأة. اكون متربصا بانهيال سيل الكلمات عليّ. لكنه حينما تتخمر الفكرة في رأسي فيطرد جزء منها ككلمات تود لو سطرت، تتخدر اطرافي ولا اصير قادرا إلا على مواكبة السيل، اكتب دونما شعور مني بالوجود إلا كقلم يسطر الكلمات، إلا كأنني انا الكلمة التي تُكتب، لا كأنني كاتب متغطرس كما يبدو من بعيد.

لكنني بعد ان اكتب، انظر لكتاباتي، فاصرخ في الفضاء:
غريب... ومفاجئ ايضا... مدهش!

كيف، وبأي حق، بحق من؟ احتالت هذه الافكار إلى سطور. هذه الأفكار التي كانت تفت لتوها في رأسي. وتخز مؤلمة حارقة. كيف تحولت إلى كلمات مسطورة على هذه الشاشة؟ لماذا لم تحترق الشاشة تماما تأثرا بهذه المأساة وهذا البؤس. كيف تستطيعون النظر هكذا بلا تعب، وبلا هم يحرق الواحد منكم؟ ألأنكم اكثر تماسكا مني؟ الأنني مريض يهول من شأن كل شئ؟ أم لأنكم مشغولون بتفاهات؟ اذا انتم المسرفون وانا المعتدل. انتم الموهومون عن الحق المبين، عن الألم. واأنا المعتدل في الالهاء. استوفي كل آلامي حقها من الوجع، لذا تجدني اسطر واكتب، ولا واحد منكم يكتب.

وأنا على الرغم من كوني كاتب، فشأني قليل...

ان قدري في هذا الوجود هو قدر حذاء. انني اصلا بلا فائدة، وبلا قدرة على احداث ثمة تغيير، وان التغيير الذي قد احدثه، ليس بقيمة. لان وجودي اصلا وجودا تافها، مثل فكرة تدور في رأس كاتب، يدسها بقلمه في ورقة، ثم يقذف بالورقة إلى المرحاض. أنا قاع ذلك المرحاض. أنا وأنتم بالمناسبة. ساحرص دائما على ان اهينكم معي. لانني لا اود ان اقول انني حقير، ويسهل علي تماما ان اقول نحن حقراء.

وهذه الحقارة، تُثير آلاما، تكوي جلدي، وتعتصرني...

بصراحة، انا اتلذذ بهذا الألم. ولا اود ان يغادرني بمقدار فرسخا واحدا. لقد صرت احتضنه، اقبله قبلات لاذعه فيحرق حلقي بمرارته. كذلك، استطيع ان اقول، انني... اشتهيه. اعي ان كل الشهوات المعنوية بالأصل آلام مادية. لكن هذا شيئا مستقلا تماما. فهو ألم معنوي، لكنه لسبب ما، ألم لذيذ. استوعبه، اتلوع بسببه، لكني ارغب في ان لا يكف عني، وابحث عن اسبابه لكي اضمن استمراره، اقف على عتبته ليل نهار حتى لا ينقطع ابدا.

،

الآن، فهمت، الآن، فقط، فهمت لماذا...

انها الثورةعلى كل نظام، انه الاحتجاج على الواقع المؤلم. فأنا مثل قرد، غُلقت عليه ابواب قفص، حرمته من بريته الاصيله. فيراه كل من يمر في حديقة، وهو يصرخ. لكنهم، مع ذلك، سيحرصون على ألا ينصتوا لفحوى صراخه المؤلم. سيتبادل العشاق قبلاتهم حتى يبقى هياجه في الخلفية. لأنهم يتجنبون الألم الذي يبثه فيهم، بافعالهم التافهه. ولأنهم اصلا لا يقدرون على تحمل قدر صغير من المأساه يُمكن ان يُحمل في كف طفلة صغيرة كالذي أحمله انا. ولأن احدا لم يستفسر عن سر اتصال الصرخات، لان احدا من المارين في الحديقة لم يلتفت لقرد. فلا يحق لكم، ايها المخبولون، ان تسألونني لماذا استمر انا في الكتابة.

ان اكثر ما يخطر ببالي الآن، هو ان الانسان منا يحوي طاقة هائلة، طاقة عظيمة. اكتسبها من الانفجار العظيم، كبقية الغبار الذري. الانسان مثل نجم مهول ضخم، يشع حرارة تكفي لان تحرق الكواكب التي توشك على الاقتراب منه. ثم هو يُمني نفسه بان يحظى بالطاقة ابدا. بان يخلد مع طاقته او تخلده طاقته. فمثلا يكتب، يحلم جزافا بان كتابته التي كتبت على حجر، لن تطمس ابدا. مع اننا في رحلة من والى العدم. مع ان العدم ولَّد من بعده كونا انشأ حياة، منحتنا من بعدئذ استيعابا عاجزا، يحلم بان يخرق الحلقة. وعيا يتمنى ان تنكسر اي عقدة من المسبحة التي يدور فيها من والى العدم حتى يبقى، حتى يستمر. وهذا غير متاح. وهذا غير وارد، بحكم طبيعة الاشياء. لكننا على عجزنا، محملون بالطاقة. بالحيوية، بالفكرة. لدينا يد ولدينا عقل. لدينا مدية حادة تدور بسرعات فلكية، لتنتج الافكار، الافكار المدمرة والاشد فتكا. مثل القتل، والاشتراكية. لدينا الاعمال العظيمة مثل الابراج وقاعات السينما. كذلك، اود ان اؤكد، ان هذه الطاقه مردها إلى العدم. ستفنى في يوم ما، لا حين نهلك فقط، لا حين تذرو الريح رفاتنا. بل حين نستفذ طاقتنا بالتدمير اللازم. فهذه الطاقة تحرقنا من الداخل، وهي طاقة مؤلمة جدا، طاقة خبيثة، لا تريد ان تتمهل إلى يوم المنية، بل تريد كل ذرة منها ان تنصرف عن البدن، فالبدن لها هو السجن، وهي تريد ان تتحرر، ان تعود لمنشأها، العدم، لذلك هي تقاتل كي تتحرر. هي تفتك بنا في الباطن حتى ندمرها. يجب ان ندمرها اشد واروع تدمير. ان نفجرها بالكتابة والفن. بالعلم والفلسفة. بالخيانة والقتل. لا بد ان نسفك هذه الطاقة، لان دينا يقع على عاتقنا. لانه كما منحتنا هذه الطاقة حياة، علينا ان نمنحها الدمار الذي تستحقة. وان قصرنا في هذا الفعل، فسننسحق تحت طاقات آخرين، يؤدون دورهم بايجابية وتميز، ينهالون علينا بطاقاتهم الفجة، فيضغطوننا ويقمعوننا باستمرار. لاننا ضعفاء، نود ونحرص ونخاف. وهم لا يفعلون شيئا إلا الدمار اللازم.

اذا كان لي غرام وشغف، فشغف بالفكرة. الفكرة التي لها احيا. التي ابدد لاجلها طاقتي. التي ابذل في سبيلها حياتي. لو ان لي ثمة حزن وشجن، فلان فكرة واتتني، فلان فكرة واتتني لكنها لم تسطر، لم تحد بحد القلم. لان كثير من الافكار التي تضربني في رأسي، افكار جامحة قاسية، واسعة كمحيط، لا يستوعبها عقلي العاجز، حتى يروضها قلمي المحتال في بضع سطور. يؤلمني وبشده، ادماني للفكرة. فلو تصورتم لخر الابله منكم ساجدا امام ملكوت الفكرة. فانها حين تضرب: لا نقدر ان نرد، فقط سنتحاشى، سنحاول ان نجعل الامر يبدوا طبيعيا، بالرغم من اننا في اعماقنا...  نصرخ، نسب ونلعن الله.

اننا، بكتاباتنا، نحاكي الحلم. فكما ينسج العقل الباطن خيالات تبدو شريدة، منفصلة مستقله مبعثرة تماما. في حين هو اصلا يُنشئ رموز الحلم على اساس غير اعتباطي. في حين هو ينتج صورا معينه تحمل لنا، لمشاعرنا احزانا وهموما كثيرة وهائلة، لان الصور اصلا مرتبطة في وعينا بتجارب شعورية. فاننا نستبلغ ونستوعب الرسالة كاملة في نهاية الحلم. عندما يضع نقطة النهاية، ويكتب "تمت" نهلع إلى اليقظة، نستيقظ مذعورين، من هول الواقع لا من روعة الحلم. كذلك كتاباتنا، حينما تنتهي، فاننا نفزع ونختل، لان الواقع مر، والكتابه حتى حين تحكي المأساة تكون حلوة لذيذة



الجمعة، 7 أغسطس 2015

تخيل معي! -مقال غير مُجدي عن المثليه الجنسيه-





تخيل معي، الآن، ان رجلا اربعينيا، لديه عافيه وصحة عظيمة. اقبل على امرأة ثلاثينية. جمالها اخاذ. نهديها متقدين. ترتدي فستانا احمر اللون. مقذوع من منطقة الفخذ. يكشف عن ساق شديدة البياض. وهو، الرجل يرتدي قميصا وبنطالا. يبدو كموظف ثري. المرأة تنتعل حذاء عشرة سنتيمترات. اسود، لامع. ويمتد بطول ساقها شراب شفاف. ساقها يستحيل ان توصف بانها ممتلئة، لانه تماما في المقاس المثالي.

لا لن يجري بينهما ما تتصوره، لن يقبلا بعض ثم يتقاسما الفراش. فهؤلاء الاثنين، لديهما طريقة خاصة وخاصة جدا في التلذذ، سوف لن تستوعبها انت. لانك ساذج، تظن ان اللَّذه مقتصرة على هيئة ونوع واحد لا خلاف له.

المهم، سيخلع الرجل رابطة عنقة، التي تدلل على ثراءه. ثم يجثو على ركبتيه. فتضع الجميلة، ذات الرداء الاحمر-لقد الح عليها منذ اخر لقاء لهما الا ترتدي سوى رداء احمر، والا تنتعل سوى هذا الحذاء او الحذاء الاسود ذو الرقبة- ساقا فوق ساق. فترتكز قدمها المدهنة تماما امام ذقنه. لانه انحنى قليلا الى الأمام.

تعرف ما سيدور بينهما فيما بعد؟. سيخلع حذاءها عن قدمها. سيقبل الحذاء قبلتين. فيسيل لعابه. سيتشمم بعدئذ قدمها وهي مدسوسة في الشراب، فتبدو على وجهه معالم لذَّه، تاثرا بالرائحة التي تشممها. سيقبل فخذها، ثم يشد باسنانه طرف الشراب، فيخلعه عن رجلها البيضاء وهو يلهث، كانه يشد بفمه قطارا محملا باللَّذات والمُتع. سيغمر قدمها الصغير بعد ذلك بلعابه. سوف يتسنى لنا، انا وانت، اذا كنا واقفين شهودا على الموقف، ان نرى هذا الكهل يتمرمغ لاعقا قدميها. سوف تنصرع انت لهول اللذه التي تغرق فيها عينيه. سيذوب امامنا، وتتفجر من بين اصلابه دفقات كثيرة. سيدعك بيده محل الدفقات. سيرتعد اثر اللذه. سيقوم ليدخن سيجارة النشوة!

اتعرف كيف يمكن ان ينتشي شخص ما من هذا؟

صحيح!! فاتني ان اعلق، على ان المرأة قد ركلته ثلاث ركلات وهو يلعق قدميها. مرتين بغير قصد. فقد انفلتت حركة مفاجئة من قدمها بغير قصد في هاتين المرتين. ومرة ثالثة، فعلتها متعمده! فاقسم بالله، اني رأيت طلاء اظافرها الاحمر -لقد الح عليها في طلب ذلك اللون ايضا- وهو يختلط تماما بوجنته اليمنى. لا بل اليسرى، فهي ضربته بقدمها اليمنى، وهو راكع امامها، فلا بد ان تصطدم اليمنى بالخد الايسر، اليس كذلك؟ ام انني مخطئ؟
أأخبرك سرًا؟ لم ار في حياتي، امرأة ما، تنتشي بهذا القدر. رأيت امراة تضاجع ثلاثة في وقت واحد فلم تتأثر مثلما تفحمت هذه المتغطرسة من فرط النشوة! كيف؟! والأهم لماذا؟!

كنت منذ يومين، اتصفح الويب، فقرأت على منتدى "حماة السُّنة"، شيخا يفتي بان الشذوذ (المثليه الجنسيه) محرمًا. لا لأن الله مُتعسف، ولا لأن الإسلام دين خرافة. وكأنه في حاجة لمثل ذلك التبرير. بل لان الشذوذ (بحسب وصفه للمثليه) يهد اركان المجتمع. وهو بذلك نذير بؤس وشرور كثيرة لازم ان نتفاداها. كان هذا الشيخ المسكين، يجيب على تساؤل واحدا من زوار الموقع، يسأله عن الموقف الذي يلزم ان تنتهجه الحكومات العربية ازاء اباحة الامريكان للشذوذ، وهل واجب ان نتخذ موقف عدائي من أمريكا؟ لانها صارت من صناديد الكفر- هكذا تماما عبر عن رأيه بامريكا، صناديد الكفر، ما معنى صناديد باية حال؟- فكانت اجابة الشيخ كما ذكرت، ليس تماما كما ذكرت، بل اضاف اليها نقطة او اثنتين.

هذه الاسئلة تغمر عقول الناس العادية بشكل عام، لان المثليين، حسب ظني يشكلون رعبًا حقيقيا لغيرهم. لانه غير معقول تماما ان يكونوا على صواب! كيف يكونوا؟ كيف يتمتعون ويتلذذون ينجاساتهم! تبا، هؤلاء لا يعرفون الدين، يستحقون ان يسحقهم الله كما سحق من قبل اللواطين الملاعين. لا بد ان نمحيهم اذا كنا مسلمين بحق! اما اذا كنا مسلمين، ولكن من مصر الجديدة، فنحن اذا لن نمحيهم، لانا على قدر من الانسانية والرحمة، ولاننا متعاطفين جدا مع الخلل النفسي والعقلي الذي يحيا به المثلي. لذا فسوف نتهكم-فقط-عليه في كل مناسبة. سوف ندهس مشاعرهم بكل قوة لدينا وبكل حذاء نملكة. سوف نتقزز من المثليين كذلك ونتجنب التعرف اليهم، لان ما يفعلونه مازال ولا يزال نجاسه.

اذن هم مرفوضون بوجه عام. خلا ان البعض سيبدي تعاطفه معهم، سيزيف موقفا في صالحهم، في محاولة لان يبدو اكثر تحضرا من غيره، فاذا بدل صورته الشخصية على الشبكة الاجتماعية الى الوان القوس قزح، اتيحت له فرصة رائعة لان ينهش في لحم بقية المصريين الرجعيين. الذين لا يفقهون المعنى الحقيقي للحرية، اصحاب المبادئ المزدوجة، اف لهم!

هيا نعاود ادراجنا لحكاية الرجل ذا القميص والمرأة المفعمة بالحيوية، المثيرة الى حد بعيد التي كانت تركله لتنتشي...

اتعرف يا عزيزي، بم يتمتع هذين "الغريبين"؟ واضح لك ان ما يفعلانه، لا يثيرك بلذة او متعه. لكنه في الحقيقة يثير فيك شعورا مختلطا بالاشمئزاز والألم: النسبة تتباين من شخص لاخر، لذا لا اظن ان كل القراء سيعجبهم هذا القول، فالبعض سيقسم بالله انه لم يتألم وان الامر كله قصرا على الاشمئزاز والنفور. لكن هذه الجفاوة في تقدير الشعور لا تشغلني الآن.

تعال نتدارس سويا ما الذي ودت انت لو تراه حينما بدأ المشهد... تمنيت ان تتم الممارسة بشكل طبيعي، الممارسة العادية المعهودة... او تمنيت حتى على الاقل، بعدما شرعا في افعالهما الوسخة، لو نفرا من هذه الافعال "الشاذة" التي قاما بها!

ما غرضي من هذه الحكاية؟ 
كدت ان انسى...

سانهي هذا الامر بسرعة: انت حينما تعتلي امرأة ما وتقبلها فينتقل لعابها إلى فمك، كما انتقل وسخ قدمي المرأة إلى فم الرجل. وانتِ حينما تأتي رجل في فرجه وانتما على الفراش، فتستبدلين الألم باللذه، تماما كما استبدل الرجل الالم والاهانة المصاحبين للركلة بالتلذذ. وحينما ينتهي الجماع، يؤلمك جسدك بشده، لكنك لا تلحظ لانك متمتع نشوان.

اذا لم يكن هناك اي تبرير منطقي لما دار بينهما، اذا كنت تعتقد في هذا، فانا اتفق معك تماما، لان العملية التي اجروها معا محملة بالقذارة والقرف. لكن تبعا لاستنتاجك الجرئ هذا، واجب ان يتفق لك كذلك، اذا كان عقلك بحالة سليمة، ان ما تقوم انت به ايضا مع من يجاورك الفراش، هو فعل مقزز وخالي تماما من المنطق.

ففي كل الاحوال لا توجد في حياة الانسان الا المعاناة والالم... لكنه وبفضل عقله الباطن الخبيث، استطاع ان يترجم عددا من الآلام التي يمر بها في حياته إلى اللذه او المتعه. من خلال خدعه كيميائية تجري في العقل، لا علاقة لها بالمخزون المنطقي او الاسباب الكونية التي كان من المفترض ان يأخذ بها الانسان.


اقول من دون استطراد، الانسان وبصفته كائن واعي. كان انكى به الا يضيع لحظة واحدة في سبيل سوى البحث عن الحقيقة، السعي لكشف الاسرار... لكنه ولوقاحة منه، اختلق لذات ومتع حيوانية، تلهيه، وتشغله عن الرعب الكامن في جهله بالغيب. في انه بالاصل لا يعلم مكنون ذاته، ولا يعرف عن الاسرار الغامضة الموحشة شيئا من الاشياء قط!

الأربعاء، 29 يوليو 2015

شيخوخة الخالق




الآن تعلم يا ابليس لم اورثت العالم للانسان ولم اورثه لك.

لان العالم قاس جدا على ان تتحمله مخلوقات النار...
ان آدم، ولانه طيني منحط، قد قبل!

ان الناس متسقون مع الألم، اكثر من اتساقهم مع انفسهم.
حين كنت انفخ روحي بآدم،
رأيت حزنا وعرقا كثيرين،
شممت بين فخذيه روائح نجسه كثيرة،
نغزته فتهشم تماما وتكسرت كل حبة فيه،
جزعت حينها، احسست بوخز الفشل!
فهالني وقوفه امامي...
كأنه خلق جديد، وبدا انه احب النغزة.
عرفت توا ان شهوته ستكون الوجع، وجفلت من اجله،
لكنني حينها، كما تعرف، كنت في ذروة الطموح،
كنت الهث وراء اثبات جدارتي بينكم،
فتحاملت عليه...
قلت لنفسي ان كل هذا لازم.

اترى ما الجديد هذه الأيام؟
صاروا يُحاسبون انفسهم... بل ويتهمون من يلومني بالكفر!
هؤلاء يسهل تماما تضليلهم،
خلاف ما كنت اتوقع.
لقد راعتهم زعقاتي وصيحاتي،
صاروا يتحاشون غضبي منذ صرخت بجدهم الكبير.

اظن انك لم تتصور بعد، لذا سأحكي لك الأمر...
أنا خلقت العالم.
أنا، يُفترض بي، طيب، احب الخير لابعد الحدود.
أنا خلقت المأساة.
أنا، خلقت آدم، ومننت عليه بخلقي.
ثم قذفت به إلى غياهب البؤس التي يحيا فيها منذئذ.
لكن احدا لم يلحظ ان "الطيب" قد خلق "بؤسا" يمُن به على مخاليقه.
لقد اثبتت الأيام ان المعرفة التي ذاقوها من الشجرة لم تكن وحدها تكفي.

صدقني يا عزيزي،
مازال هنالك اناس جاهزون لأن يزنونني ذهبا.
وهناك آخرون، احبهم اكثر،
يسفكون الدماء حتى يعلوا اسمي.

اتعرف،
اشعر احيانا بالخسه.
اتمنى ان اتراجع عن كل هذا.
ان اشطب على هذا العالم سطرا بعد سطر.
لكن قسمي الذي اقسمت امامك والملائكة يحول بيني وبين مرادي.

سيقول ابنائي، آلله المنهزم؟
لا لا هذا لا يصح...
فلينحسق البشر ابدا.
لن الوذ عنهم بعزتي وبجلالي.

فانا الفوق وهم التحت مهما كان.

الخميس، 23 يوليو 2015

نَبيُّ المَوتِ


رغم انفي، ولأني جبان، سوف ادفع ثمن الموت حياة ؛




لا رغبة لي خلا الموت... لذلك سأعيش حقيرا كما الصعاليك. سأتحلى بالدناءة حينما تحتم الظروف خُلقا. سأتذلل واتصاغر حين يُتاح لي الإباء. سأحني رأسي كي أمر بأقل عذابات ممكنه. حتى يكون الوصال بين نفسي القذرة ورغبتي الفجه في الانتهاء من ذلك كله.

لا عزاء لي سوى انني يوما من الأيام سوف أموت، سوف لن يُعنيني بعدها من أمر ذلك الكون كله شيئا. سوف لن آبه للمأساة ولن أُلح في طلب الفرحات. لأنني حينها لن اكون من الأساس. سأنمحي من الوجود. سوف لن يذكرني أحد لا بحسن ولا بسوء. حتى رُفاتي ستتحلل فلا تكون بقيمة ابدًا. اينعم، انما هذا هو عين ما أريد.
الانمحاء. ان يكون اقتفاء الاثر لي مُحالا، ان اذوب عن الوجود فلا يُقتاد إلي ضال. ولا يعثر عليَّ مهتد. فأنا عن هذا كله حينئذ احيد.

  ،


واتتني فكرات كُثر. وصار لزاما أن احكي ما تيسر منها

 أما الآن وإلى يوم توافيني المنية. فأنا ناظر بالاغلال تقمح عنقي إلى تحت. اعيش مذلولا مهانا، لا رغبة لي في علو قط. ومَن من بني البشر عليان؟ فما من عال إلا وهو في الأصل مُهان. يتمنى ان يكون اكيدًا ان يُهان مع بقية الخلق. فيذوب خشية الفناء سعيا في رذل الملذات. ثُم من اين لنا براحة البال وفي الحق نحن جاهلون عن كل ما يدور.

المادة التي تحيط بنا، غامضة، وفي غموضها عذابات وحسرات لا تحصى. فلولا الغموض، ولو أزيح الابهام وكف الوعظة عن الإيهام. لو عرفنا السِّر، ربما تجلت لنا الوقائع المؤلمة في حُلة مرضية، نقنع بها ونهنأ. لكن المادة تأبى ان تكشف لوعينا اي دلالة من الدلالات. مما يحيلنا إلى التساؤل العنيف القاسي، هل حقا هناك سر؟ وإن لم يكن؟ فماذا يكن؟

قالوا، الحياة متيعة، فعشها. لكن وما دمت لم اعرف بعد سببا للحياة، فلماذا لا انتحر؟ الجواب بسيط، وهو أنني قد روضت عبر السنين. هُزمت غير مرة فاهترأ باطني كالاسمال القذرة. وانتهجت الشك في كل امر كان. والنتيجة، انني صرت جبان اكثر من اللازم، جربت القفز إلى الطريق إملة الاندهاس في محرك سيارة مسرعة. فانتصبت على منصة الانتحار. واذ انا على وشك تشييع جثماني إلى اسفلت الطريق اسفل شمس الظهيرة التي ستجففه. إذا باطرافي تخمل، واذا بعقلي يبور ويتمنع على الفكرة، التي سرعان ما خفت رنينها في دماغي. وكأن الخوف قد قشر عني جلدي في تلك اللحظة. التي فارقت فيها الحياة، فارقت فيها الجرأة. فارقت منصة الموت، جبانا رعديدا. مؤلمة الحقيقة إذا اُعلم بها الانسان!

سيأتيني شيخ يحدثني في مغفرة الله، ويأتيني قس يحكي في محبة المسيح، ويأتي مترف يُلهيني بالملذات. فأقول بئس المثوى مثواكم، وان غنمتم، لأن مغانمكم لحوم شيطان دنس لا رغبة لي فيها ولا هدف.
،

سيأتيني الله في نومتي، ساستيقظ،
لأنني اود ان اراه رأي العين،
فينفر مني.

ولأني ما عدت أرى الله
ولأن الله ما عاد يباغتني بالظهور
كما كان فعله في القديم

فبسم الموت، الذي يُنهي ما بُدء، والذي يدرك الكل، أقول:
أيها الناس، إنني أنا النبي الجديد...
إنني أنا النبي الجديد. أقول هذا بصوت رنيم، لا اصرخ كمن اتى من الجحيم ولا ارتل بالقول الرخيم. وها أنا ذا اكرر نبأي السعيد، إنني الواقف امامكم... نبيكم الجديد.

أنا نبي الموت...
أنا نبي الموت إليكم يا خلق الله الهائمون على وجوهكم في الضراء، الساعون إلى طواحين الإلهاء عن الحق المقيم فوق رأس الواحد منكم كجبل يمكث على اطلال بحر. انما الموت ناظركم وانتم رغم لهاثكم منه ميتون
.

اعلم ان معلومي إليكم معلوم لديكم.
لكني اصرخ بلا فم، واكتب بلا قلم.
اذيع النبأ على لا مستمع.

فلينفق الواحد منكم حياته رجاء ميتة عاجلة. فلتزهق روحك إن كان من المستطاع. لا تُكابر ولا تُعاند، سيأكلك الندم والتحسر على حياتك الملعونة بالكآبة القاتمة. سيُقدر لك الخسائر، سوف تُذل وسوف تُهان. فلم؟

أما الواحد منكم الذي هو جبان. رغبان في الموت لكنه خوفان لا يجرؤ ان يجز عنقه بيديه. فليتذلل كي يأنس حتى تُدق رأسه بحذاء الموت الرهيب. فيفور عن هذا الوجود من بعدئذ ابدا. فلا يستاء ولا يستر إلى منتهى الأزمان.
وعدكم الذي جاء من قبلي محمد، بجنان عدن ابديه، وسألكم الذي سبقه يسوع الفضيلة ولم يتحذر موسى ان ينهاكم الرذيلة.
ولا اكذب أنا ولا ادعي أن الله شيئا أكيد، فلا اعدكم إلا بالفناء...
الذي هو عندهم كان وعيد.

لأنك إذا ما سألتني اليوم، أجيب: أن الموت عندي صار فوق الله...





تنويه: الرغبة في الموت، في العدم، رغبة وبائية نشيرة. فكما تأكل البذرة في خصيب التراب، سيأكل تمني الموت في رأسك من بعد اليوم. لأنك قرأت ما كُتب على هذا الحجر من ترانيم بسم الموت.


الخميس، 11 يونيو 2015

مأساة متوسطة


لقد قضيت عمرك منذ بداياته وحتى المآل في عالم الوهم. العالم الذي صُنع خصيصا ليحاصرك انت وكل ابناء الطبقة المتوسطة وليحرسكم كيلا تنجرفوا إلى بركة الوحل التي يسبح فيها بقية المصريين. البركة التي يُعكر ماؤها طين العجز والخيبة الذي تكدس لضيق في الصلاحيات المُكتسبة للمواطن العاديّ في هذا البلد، فالامتيازات النيابية والقضائية والأمنية محصورة لذوي النفوذ ومعارف ذوي النفوذ كما هو معلوم بالضرورة. ثم يأتي الفقر ليؤمن عجز الجماهير بالاحتياج الدائم للقوت، فيصير الضنك مستساغا لدى الكل، فرائحة الكلس مقبولة في الديار مادام القوت يُطهى على النار. أما عيون الكادحين التي كانت بالاصل مُسلطة على الرغد الذي تتغنج فيه قحاب النخبة، فيتم تشويشها وترويغها بانسداد منافذ المعرفة الحرة، وباقتصار التَعلُم على مقررات العام الدراسي المفروضة من قبل الحكومة وخطب الجمعة التي لا تفتأ تحكي عن الاستسلام لقضاء الرب وقدرة أو بعبارة اخرى الخنوع والانصياع للرؤوس.والنتيجة كثبان من تراب الوخامة الاجتماعية تتراكم في الشوارع، وروائح الوساخة الخلقية تفوح من العماير، وزبالة التدين تترع الحواري.


تُحاصر الطبقة المتوسطة ابنائها باغشية الوهم لئلا يسرحوا في الشوارع، لئلا يلجوا العماير، لئلا يعاينوا الحواري. لظن منها انها في منأى عن الدنس، وهيهات، ولأنها في الواقع طبقة هشة متوترة متزعزعه، كالجنين المهين يحتاجان إلى رحم يُغلف بجدران متينة ويرعى بمخاطيات لزجة وبالعزل يحمي الداخلي من شرور الخارجي. يُباعد العزل بين المعزول ومحيطاته الواقعية، التي تُنذر بالسعير الكامن في الانزلاق لوديان الفقر والحرمان، هذا الانزلاق الذي هو خطر كل يوم، يفرض على متوسطي الدخل اقتفاء مسالك محدده حذرا وحيطة. هُنا تلجأ الطبيعة السيكولوجية للانسان إلى التلفيق والتحايل، إلى طمس الحقيقة المُزعجة  بأوهام وقّاده، تُسكن الموهوم بسبات وتهدهده كطفل ينام في مهد من الخواء.

لفقاعة الوهم جدران رقيقة كفقاعة الصابون، لكن رقتها لا تنفي فعاليتها في تشتيت الادراك، وفي تفكيك اقفال الحذر أمام تبريرات لامنطقية واهيه تجعل من غير المعقول سائد ومن غير الاخلاقي ضرورة اجتماعيه ومن غير الانساني قدرا إلهيًا. ترتكز عملية صناعة الوهم على عمليتين جدليتين، عملية إلهاء الذهن "المُتلقي" وعملية تشويش المعلومات "المُتلقاه". يتمثل الإلهاء في تحويل الانتباه عن المشاكل الهامّة والتغييرات الجارية، من خلال تعريض الجمهور المُتلقي لوابل متواصل من الإلهاءات، كمباريات كرة القدم وسلسال الانتاج التليفيزيوني التافه والمقالات الصحفية المجوفة. تقوم الإلهاءات بتسليط الضوء على مجالات مغايرة للواقع الفعلي الذي يعيشه الجمهور، فتشغله مثلا بثقافات اجنبيه عن بلده وتلوح له دائما بانتاجات ادبية خياله. فينسحق الذهن الجمعي للجمهور بطاحونة الإلهاء، لتبدأ عملية تشويش الصورة التي يتلقاها عن الواقع. والمقصود بالتشويش: هو التدليس، هو اخفاء الارقام والنسب الواقعيه عن المُتلقي الموهوم، هو فرض الاكاذيب حول كل مأساة تدب انيابها في نسيج المجتمع، هو الترويج لافكار ممالئة للموهومين. ومثلما ترسم الشمس ظلالا واضحة على حساب الصخور الراسخة، تُزهي صناعة الوهم البراقة ألوان الخيال على حساب الحقيقة.

إنتهي الامر بعقل جمعي-للطبقة المتوسطة في مصر-لا يرى سوى ذاته. يظن الفرد منهم أنه وأمثاله متفردون هاهنا ولا غير لهم. يحومون في أوهام شريدة بعيدة عن واقعهم المصري الموحش. فالواحد منهم موهوم بأن المعبد يقوم على رسغيه، يقوم كي يُعبد هو، يقوم كي يكفُر هو. فهو الاعمده الهائلة، وهو السقف المبري من الطوب الأحمر يُزينه الرخام البهي. وهو الرمل الابيض الناعم يمس اقدام الفاتنات، وهو العراء الذي يكشف عن انحناءات اجسادهن. وهو حرير العنكبوت في الاركان. وهو الفناء من قبل الوجود ومن بعده. ليس تجلالا بذاته واستهوان بكل ما هو غير بل غفوة عن الواقع ونسيان للحقيقة.

لذلك تنبت أشواك البؤس في عالمهم بسرعة بعدما دُس البهتان في قلب الحقيقة بايديهم. فنيران المأساة تأكل في نعيمهم  كما تأكل النار في الحشائش الجافة. لأن على اعينهم غشاوة، يصيبهم الواقع من آن لآن بصدمات قاسية، تخل منهم الاتزان بالاختلال وتزيح عنهم الفرح بالاغتمام. فثورة في سماوات الرأي تُحلق، قُذفت بحصوة المكر، فانهالت على اصحابها حسرات. وواقع يفرضه عليهم جيشا أو إملاق، يُسرفون من بعده في الفزع. وعالم تواصلي بعدئذ لازال يُغذي الوهم، يتشبثون به كيلا يضيع الواحد منهم في بطن حوت الحقيقة القاسية على من غفلها.



"مأساة متوسطة" قد تتحول فيما بعد إلى شئ أكبر مما هي عليه الآن،
أو قد تبقى كما هي مقالة رأي بلا قراء...

السبت، 21 فبراير 2015

دِماؤكَ أيُها الّنبيّ




في بادرة حياتي،
رأيت رؤيا...
  
هدير الماء و حفيف الغصون،
هفيف وريقات الشجر،
شفتان كالعنب تَحُدّان فمًا من الحُمرة قانِ،
أنفٌ ضئيلٌ مُدَبب و جَبين ناعم تَمددَ،
مؤطرٌ ما سَلف في وجهٍ مليحٍ،

مالت علي،
قبَّلت فيِّ،

انتحبَت، ثُم ذرفت عَبرة وحيدة كئيبة،
سرت على خدها الأيمن،
قالت لي بصوت مرتجف:

ستكون الروح...
    ،

انتهيت لتوي من الكأس الثالثة، كأس السكوتش المقدسة. لقد نجحت تلك الكأس هي وسابقتيها في تسكين باطني بالدفء، فبعد ان آلمتني طقطقة أسناني وراعني ارتجاف الأطراف مني، ها أنذا دفآنٌ هانئ رغم أنف برودة امشير وزعابيبه. كانت ليلتنا كحيلة، هربانة من سماءها النجوم، وضبابها في الأنحاء متكوم يحجب عنا البدر المكتمل في علياءه. لاحظته يكبر تدريجيا، القمر اقصد، صار ملئ السماء، وقد مال لونه للاصفرار، لقد صار شمسا مُتعامدة  فوق رأسي، تكاد تحرقه. تصبب عني العرق، وغاب من حولي مشهد الحانة والندماء، رأيتهم يتباعدون، أو بالحق، رأيتني أنا الذي ابعد، بل رأيتني أقترِبُ، اقتربُ منيّ، رأسي يدور. هجم الضباب على المشهد فجأة، لا لم يكن ضبابا، كانت سحابة سماوية ناعمه رأيت زخارفا شرقية واغريقية، نقشها ذهبي وأزرق، الأول لون العظمة والثاني يخُصُّ الويل.

"غُيِّبتُ عنك لفترة...
فرأيتني...
فعلمتُ أن لقاءنا قد حان..."

اقتربتُ مني، لاحظت انني كهلٌ، يفوقني بعشرينا من السني، يتخلل اسوداد لحيته خصلات ذهبية وأخرى فضيه. رصينة نظرتة الرزينة المؤطرة بحاجبيه المنعقدان في تجلال مهيب. وجههُ كما وجهي إذا زينته التجاعيد، التي تشي بفيض الحكمة والفطنة. إن الأربعين لهو سنُّ النبوة، والنبوة رِفعة وسمو روحاني يؤتثر بها أولياء الله الصالحين، يتحدون مع الواحد أولا، فتنكشف لهم الحجب، وتزول الغيوم عن رؤاهم ثانيا، حينها يهتبلون من نهر الوحي الجاري إلى يوم تُبعثون.
اقتربتُ مني اكثر، فبدا لي أنه اضخم مني، مفتولةٌ عضلاته، عروقه ناتئة ، تتفجر اضلاعه بالبأس والحول، في تحرك اطرافه استحكام قارس، فَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ...
نظرتُ في عينيَّ، تنسال شلالات الفرح بين اساريره، وتلمع عيناه بتحنانٍ لرؤيتي، فهو يهواني مثلما اعشقهُ، كَلفٌ أنا به، ومتيم هو بيِّ، فحبُنا موجودٍ من قبل البشر، بل من قبل الوجود ذاته، من قبل كل قبلٍ.

"في البدء، كان الكلمة...
ما كلمة للبدء سوى كلمة الحب..."

-أنت تُشبهني، أم انه السُكر الذي أمُر به؟؟
ضحك متقهقها، فترددت اصداء ضحكته في الأرجاء، ولاحظت ان جمعا من الحاضرين التفتوا إزاءه، من اين جاء هذا الحضور؟ رجالٌ ونسوةٌ، بيضٌ وسودٌ، تُزوِّق جباههم تيجانًا ذهبيةً تأخذ الأنباه، وتستر ابدانهم دروعا مُرصعه بالدم والطين!
بهتت صورة الملائكة، وبرزت صورته، حينما قال بصوت رنيم: من ينظر في مرآة الرب لا يشوف سوى صورته، هكذا جَبَلتكم وهكذا تكونون، هكذا أُريد بكم...

أخذني استهجان لما قال، وطفقت بذهني التساؤلات تطوف. كيف يكون "هو" على شاكلتي !!
-ما العجب يا ولدي؟ ذرأتكم لا يرى المرء منكم سوى ذاته في الوجود، وانا الوجود اجمع! اذكر معي كيف رسمتم المسيح بهيئات كُثُر، خلتم انكم تتأملون الملكوت السماوي، فما رأت ارواحكم إلا انفسكم، هكذا حالكم إلى منتهى الأزمان.
سكتَ بُرهة، ثم بسط ذراعية بالترحاب وهو يقول: قُل ليِّ يا غُلام، هل تشعر انني أنت؟
تحشرج صوتي وأنا اُعلِق: حاشا لله، حاشا لكَ يا ابت، بل انت السمو و...
زعق وقد اقتضبت ملامحه: لا تُخاتر الرب، ولا تفترِ قُدامِه!
رمقني، لفحني القيظُ المتقد في حدقتيه، آنفًا، نظمتُ راغمًا: أنتَ أنا ... لستَ سِوى الأنا، لستَ بغيرٍ، وما من شئٍ في الوجودِ بغيرٍ ... كله أنا وأنا الوجود بالكلية.

"وأنا إن قُلتُ أنت...
فأنا أنت الذي أعني...
وأقصدُ بالندا إيانا..."

بَرَد، بَرَد حرُّ الشمس من فوقنا، لما قرَّ هو بما اجبتُ، فبشَّ، تماما كما اتبسم، تمططت شفتيه بميل ناحية اليمين اكثر مما تتمطط ناحية الشِمال. اقترب مني واحاطني بذراعه الفتيَّ، ضمني إليه بشدة لا تخلو من حنو، وهمس: انت ترتجل كُل هذا! انفرجت ابتسامته اكثر واكثر.
راعني قوله، تذكرت السهرة، الحانة والندماء، السكوتش ومكعبات الثلج، اهتاج باطني، فدحرته بعيدًا، وصحتُ: أنت إذن مُجرد هلوسة تدور برأسي دورانا! لست أنت أنت كما ظننتُ!
بهت الوجود قليلا من حولي لما غدقنا الضباب، فاجابني مُعاتبًا: أين الأضاد؟ وفيم التناقض؟ ما يمنع أن أكون برأسك وأن أكون الرب في آن؟؟

" إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله—صحيح البخاري"

سكتُّ بُرهة، طال السكون ساعة، وأنا ارنو وجهه الكريم. في النظر إليه حلاوة لا أروع. صرت أنا الأربعيني وصار أنا العشريني. طال السكون يوما، ثُمَّ تبدلت الأدوار ثانية. طال السكون كسنيٍّ مرت ثُم تبدل هو، من العشريني إلى الأربعيني مُجددا. كاد يُذهلني ما حصل، لكنني كُنت مشغولٌ عن عبث الرؤية وشتاتها، بحسن جماله، ووضاءة شكلِهِ، ونضارة هيئته، ومَلاحَة قَسَماتَة، ورَوْعَة عظمته، وسحر بَهاءه...

"وبحبك اشتغلت حواسي...
مثلما بجمالك امتلأت جميع جهاتي"