الاثنين، 6 يناير 2014

الاعجاز المشهود فى بدء تكون المولود (ج)

"إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا"-الإنسان-2-.

نعود مجددا لقضية البويضة التي تجنبها ظاهر النص من القرآن، فجماعة الإعجازيين أفتوا بأن النطفة الأمشاج هي البويضة الملقحة. الأمشاج لغوياً أي الأخلاط، من أصل خلط إختلط خليط أخلاط، ونجد المعاجم تحددها على انها إختلاط السوائل، ناهيك عن إجماع كتب التفسير على أن النطفة الأمشاج هي خليط ماء الرجل وماء المرأة، كما نُقل عن ابن عباس تفسيره للأمشاج على أنها ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا،(1) وقد أبنا فساد ذلك القول الذي يعبر عن معرفة سطحية لا دقة فيها.

ولو فرضنا-جدلاً-أن المقصود بالأمشاج إختلاط الحيوان المنوي بالبويضة، فلا زال هناك قصور من وجهين أنه لم يذكر البويضة برغم أهميتها-والإعجازيون يرددون أن الوصف القرآني بالغ الدقة-وأن الحيوان المنوي يتلاحم بالبويضة لا يختلط بها فحسب، وقد طال بنا البحث عسى أن نجد من معاني الأمشاج ما يدل على إلتحام الأجسام فلم نجد، بل إن معناها مقصور على اختلاط السوائل لا الأجسام حتى!.


"خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ"-سورة الطارق-6،7-.

الصلب هو عظم في الظهر ذو فقار يمتد من الكاهل الى العجب او اسفل الظهر(المنجد في اللغة و الاعلام)، والترائب جمع تريبة وهي عظام الصدر، وهي موضع القلادة من صدر المرأة(الصحاح). وقد اتفق المفسرون وعلى رأسهم القرطبي وابن كثير والطبري أن الآية تُشير لخروج ماء الرجل من ظهره وماء المرأة من صدرها أو ثديها.

السائل المنوي ينشأ في البروستاتا-غده اسفل مثانة البول-والحيوانات المنوية تنشأ في الخصية، أما ماء المرأة فلا ماء لها في تكوين الجنين، ولو قلنا جدلاً أنها البويضة، فالبويضة تنشأ في المبيض ولا علاقة لها بالصدر أو عظامه، ومن يبحث في العهد القديم أو رسائل أبقراط، يعرف من أين جاءت هذه الزلة العلمية.


الإلقاء باللوم كاملاً على عاتق هيئة الاعجاز العلمي خطأ شائع بين منتقدي الاعجاز، فالواقع يكشف عن وجود إيمان عميق بالاعجاز العلمي بين صفوف المسلمين جميعٍ إلا من رحم ربي، وليس الأمر قصرا على الجماعات السلفية والوهابية التي تقوم هيئة الإعجاز على أكتافها، فالأزهريون-كمثال-يعتقدون به، وعلى رأسهم الشيخ الشعراوي-رحمة الله عليه-فقد كان يبثه خلال تفسيراته للقرآن، حتى طُبع له بعد وفاته مجلدات بذلك الخصوص، وكذلك التنويريون منهم من يعتنق الإعجاز ويرى التسليم به ضرورة، على رأسهم الدكتور مصطفى محمود-رحمه الله-، الذي حُمِلَت مقالاته بالإعجاز، وتفنن في طرح أشكالاً متعددة له، وغيرهم الكثير من فرق الإسلام الدعوية، حتى صار الأمر مُسلَّماً به لدى عوام المسلمين أيا كان نهجهم، يظنون أن ذلك الإعجاز هو رسالة الرب لهم أنهم على الحق المبين، فهو الصخرة التي تتفتت عليها أمواج العلم الحديث.

"الله يعرف أن الناس في عصرنا سينشغلون بالعلم عن الدين، فأرسل لهم سهم الإعجاز العلمي منذ أربعة عشر قرناً ليحبط أعمالهم وليردهم إلى الدين"، هكذا عبّر مدوناً مسلماً عن سر إعتقاده بالإعجاز، ولقد أجمل كثيراً دون أن يقصد، فما الإعجاز إلا خرافة عصرية تتناسب وعصر العلم، خرافة يتمسك بها المسلمون خيفة أن تلهيهم صيحات العلم الصاخبة عن التدين. وخطر ذلك على الدين عظيم كما أبنا، والأولى بالمتدينيين عموماً، والمسلمين خصوصاً أن يتخذوا العلم رفيقا لا عدواً، فليكن العلم وسيلتهم في التدقيق وراء خرافات الماضي المتعفنة في سرداب التدين.

_____________________________________________
(1)نُقل كذلك عن عكرمة ومجاهد والحسن البصري والربيع أقوالاً مماثلة.


(2)                                       (3)
___________________________________________
(1) حوار مع صديقي الملحد الكتاب الأكثر رواجاً للدكتور مصطفى محمود، يتحدث في فصله السادس عشر عن المعجزة الرقمية في القرآن، وما هي إلا استنساخاً جديدا للمعجزة العلمية، فلا تحد ولا سلامة من المعارضة، ناهيك عن ميوعة الفكرة أصلاً، رابط للمطالعة
(2)كتاب تربية دينية، مصر، تأليف الشيخ الشعراوي، يتعرض فيه للإعجاز العلمي، فلا عجب أن القاعدة لدى عوام المسلمين أن الإعجاز ركناً إيمانياً، رابط للمطالعة


تنويه: لم نستطرد طويلاً وراء كشف حجج الإعجازيين الواهنة، ولا وراء مشابهة التوراة والقرآن لعلم الأجنة اليوناني، ولا وراء التناقضات البينة بين العلم التجريبي-عامة وعلم الأجنة خاصة- والقرآن، ولا وراء النماذج المختلفة من التيارات الإسلامية التي تعتقد بالإعجاز العلمي، لا لقلة الأدلة عموماً بل لكفايتها، وهناك الكثير من الأدلة لم نذكرها-أو اكتفينا بالاشارة لها-لضيق المساحة.


      إنتهى




الاعجاز المشهود فى بدء تكون المولود (ب)




﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 12- 14]

النطفة القليل من الماء، والنُّطفة الماء القليل يبقى في الدَّلْو-لسان العرب-وذاك معناها الأصلي، الذي تجدد، فصارت تدُلُ على ماء الرجل كما نلحظ من قول الشاعر: "نُطْفَـةً ما مُنِيتُ يَـوْمَ مُنِيتُ...أُمرَتْ أَمْرَها وَفـيْهَا وُبِيتُ"(1)، ووردت الكلمة بمعان أخرى مثل النهر والبحر مما لا يسعنا ذكره.

إذن فالنطفة لا علاقة لها بالحيوان المنوي حسبما أفتى مشايخ الإعجاز الأجلاء، بل هي ماء الرجل فحسب، فهل هذا هو الإعجاز؟، إنسان الغاب كان يعرف أن النطفة-ماء الرجل- هي أولى مراحل تكون الجنين، ثم أننا لو فرضنا جدلاً أن النُطفة تحمل معنى الحيوان المنوي، فالأولى إذن أن نمنح العرب لقب الإعجاز لأن النطفة جاءت في أشعارهم من قبل الإسلام.

العلكة الممضوغة طبيعياً (أي 
المضغة) لا تظهر بها آثار الأسنان
العَلَقُ الدم، ما كان وقيل:هو الدم الجامد الغليظ، والقطعة منه عَلَقة، والعَلَقُ: دود أَسود في الماء معروف، الواحدة عَلَقةٌ-لسان العرب-. نحن إذن أمام معنيين لا ثالث لهما، إما الدم وإما دودة العلق، والقول بأن العلقة تعني الشئ المعلق، لا وجود له في معاجم اللغة، والآن نتساءل-دون تفنيد علمي لصحة الوصف-، هل هو وصف إعجازي؟ الجواب نجده لدى النساء فهن يعرفن جيداً أن السقط المبكر يكون على شاكلة خثرة الدم، وفي أي مجتمع بدوي تكون مثل تلك المعلومات رائجة.

مَضَغَ الطعام يَمْضَغُه مَضْغاً، والمُضْغَةُ قطعة لحم، وقد تكون المُضْغَةُ من غير اللحم-العباب الزاخر-.

هناك إدعاء زائف بالشبه بين المشيمة والعلكة الملوكة كما بالصورة-التي تزخر بها مقالات الإعجازيين-، ودون توقف أمام مدى دقة الوصف، هل هذه العلكة بالصورة تشبه العلكة الممضوغة عادة؟!، أم أنها ممضوغه خصيصاً حتى تتوافق وذلك المظهر الترسيمي؟!! ...

الحقيقة أن المرأة حين تجهض حملها بالثلث الثاني(2) من الحمل يكون لحما متفسخا، فهو كمضغة اللحم تماماً، وهذه المعلومة ليست سراً مطلقاً، فالقرآن يحكي هذا الخبر كما يحكي تتابع الليل والنهار واستواء الأرض، وهي أمور تدل على عظمة الخالق، لكنها لا تحمل دليلاً على اعجازية القرآن.

العظام معروفة، والمعنى الظاهر لـ كسونا العظام لحماً هو أن الجنين يكون عظاماً قاسية تُكسى باللحم تدريجياً، وفي هذا الوصف شبهه علمية بيّنه، فما من عظام تسبق اللحم قط(3)، وإن إفترى البعض بأن العظام هنا مقصدها الغضاريف- الغضاريف لينه والعظام صلبة، فأين الشبه؟-، فلا توجد مرحلة يكون الجنين فيها غضروفياً بحتاً كذلك.

الحل إذن في المجاز، فالتعبير القرآني مجازياً يحمل بين طياتة دلالات شتى، غايتها الأساسية روحية وإيمانية، والعاقل لا يطلب من القرأن وصوفات علمية دقيقة، فهو كتاب دين وليس كتاب علم.
_______________________________________________________
(1)السموءل اليهودي، من شعراء الجاهلية، ومعنى وبيت: خلقت.
(2)بالرابط صورة لسقط في شهره الثالث
(3)راجع  مراحل كارنيجي، Carnegie Stages

 ،

جالينوس Galen، ومن قبله أساتذته يرأسهم أبقراط Hippocrates، قد بحثوا مدققين في مراحل تكون الجنين، لكن الحق أن إنجازاتهم العلمية لم تكن ناجحة فأغلب علمهم بالأجنة كان تنظيرياً يقوم على الملاحظة والإفتراض لا التجريب، فيما عدا ما شاهدوه من سقط النساء، فكان هذا مسلكهم في التعرف على ما يدور بداخل الرحم، فالنطفة مثلا تدخل الرحم، وتسقط بعد ذلك دما، إذن لا بد أن المرحلة المتوسطة التي لا يمكن مشاهدتها هي التحول من مني الرجل إلى الدم برعاية الرحم ودم المرأة وربما ماؤها وهكذا دواليك، ومما أقرّه جالينوس في كتابه "on semen":
"Thus it caused flesh to grow on and around all the bones"(1)

وهناك إتفاق حول نمو اللحم على العظم فيما بين جالينوس وأبقراط وحتى أرسطو، بل وأطباء اليونان أجمعين،وقد استمر هذا الإتفاق قرونا طويلة، بل وانتشر في أرجاء العالم كله،(2) ناهيك عن التوافق البين بين أغلب مراحل التطور القرآنية واليونانية، بيت القصيد أن جالينوس وغيره قد شرعوا يفندون في علم الأجنة من قبل الإسلام-جالينوس عاش في القرن الثالث الميلادي-وذاك غير الشائع بين جمهور الإعجاز ومشايخهم فالظن عندهم أن مبدأ علم الأجنة كان في القرآن، وأن القرآن قد صحّح مسار هذا العلم مبكراً منذ أربعة عشر قرناً، بيد أن التاريخ يشير لأن ما في القرآن هو توثيق للعلم البشري آنذاك وحسب.

"قد كوَّنتني يداك وصنعتاني بجُمْلتي، والآن التفتَّ إليَّ لتسحقني! اذكر أنك جبلتني من طين، أترجعني بعد إلى التراب؟ ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن؟ كسوتني جلداً ولحماً، فنسجتني بعظام وعصب." - سفر أيوب 10/8-13، العهد القديم-.

هكذا وصف العهد القديم مراحل الخلق، فالبداية طيناً والنهاية تراباً، وثان المراحل يُصب الإنسان كاللبن ويتخثر كالجبن وهو تعبير مجازي عن الدم والدم المتخثر، ثم الجلد واللحم ومن بعدها العظام، وعلى ما يبدوا أن ظاهر النص لا يحدد أي المراحل أولا، الجلد أم اللحم أم العظم أم العصب، لكنه ذكر أن تلك هي المراحل المتوالية لتكوين الجنين، لينجلي أمامنا الشبه العظيم في المعنى بين العهد القديم والقرآن-الخلاف الوحيد في حلاوة وروعة التعبير القرآني، لا في دقته!- وذاك أيضاً خلاف المترسخ في الأذهان من أن القرآن قد صوب الخطأ التوراتي، فكلاهما مُخطئ، أو بالأحرى مجازياً يُعبر عن معرفة أهل زمانه، وكلاهما غير مطالب بأن يورد تحليلات علمية دقيقة، فهذه مهمة الكتب العلمية، لا كتب الدين.


البويضة لم يرد لها ذكر في نصوص القرآن مطلقاً، كأنما الجنين يتولد من مني الرجل وفقط، لكن صحيح مسلم قد نقل لنا قولاً عن النبي يشير إلى أن شيئا يمتزج بماء الرجل لينتج الجنين، ونصه: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله"،(3) فحمداً لله !

ماء المرأة، أو السائل المهبلي، ينتهي دوره في عملية الجماع، ولا دخل له بتوليد الجنين، فكيف يؤثر في الشبه-بحسب الحديث-!، مما يرجح إحتمالاً من اثنين، إما أن الحديث موضوع على النبي-صلى الله عليه وسلم-برغم صحة سنده-، وقد إعتمد الواضع على الثقافة العامة آنذاك(4)، أو أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قد ردد معلومات خاطئة مترسبه لدى أهل زمانه-وحاشاه-.

وقد روي الحديث ذاته بشكل مختلف في البخاري وأحمد والنسائي، حيث يدخل يهودياً على النبي صلى الله عليه وسلم يختبر نبوته، فيسأله عن الشبه، فيجيب النبي بما سبق، وفي رواية ثالثة عرضها صحيح أحمد، يبدر النبي جماعة من اليهود بهذه المعلومة، فيؤكدوا له كلامه بأنه مماثلاً للتوراة. وفي هاتين الروايتين دلالة فحواها أن قضية الشبه هذه كانت معلومة لدى اليهود، فإن أتى بها الإسلام-بفرض صحتها-فلا إعجاز كذلك.
________________________________________________
(1)أون سيمين لـ جالينوس، طبعة يونانية-مرفقة بترجمة إنجليزية-، الفصلI:9:1-10، صفحات 92-95, 101، والكتاب يحمل توصيف جالينوس لمراحل نمو الجنين، وهناك مجلدات أخرى لأبقراط وغيره، تنقل إلينا ما اعتقده اليونان حول الجنين.
(2)حتى أن اسحق بن حنين العبادي -وهو طبيب مسيحي عربي اشتهر أيام الخلافة العباسية- قد أقر نشوء العظام قبل اللحم في إحدى رسائله، وهو قد تعلم الطب في مدرسة جنديسابور الفارسية، مما يُعطي مؤشراً لأن أطباء العالم كلهم قد اعتقدوا بنشوء العظام أولاً.
(3)هذا روايته عن ثوبان وهناك رواية أخرى في مسلم عن عائشة.
(4)وهذا من قبيل التصحيح بالمتن الذي سنفرد له تدوينة خاصة فيما بعد بإذن الله.



       يُتبع




الاعجاز المشهود فى بدء تكون المولود (أ)

القرآن منهج دعوي بسيط، يفهمه العامي حين يدعوه للتأمل بالسماء، فنظرة العامي إلى السماء وتلألؤ نجومها وسطوع شموسها وأقمارها، تبعث عنده إيمانا بمدمبر هذا الكون وعظمته، وهكذا الفلكي ذو المعرفة الواسعة  لحركات النجوم، وسيرها ونظامها وخلقها وابعادها، أقدر على معرفة العظمة، وأشد إعجاباً بخالقها ومدبرها، وهكذا الشأن بين الناس مهما اختلفت مداركهم، فكلهم صالح لأن يتأثر بهذا المنهج الدعوي الذي يثبت وجودية الخالق، وحدانيته.

كل من غلا في القرآن هزمه غلوه، بداية من الخوارج الذين افرطوا في الأخذ بظاهره، ففتكوا بأنفسهم، وجماعة المعتزلة الذين اسرفوا في مَنطَقة القرآن-الكشف عليه بالحجج العقليه-ففسد عليهم الدين، لأن الدين عماده الروح دعامته العقل لا يصح بأحدهما منفرداً، وعلى درب الغلو سارت جماعات المتصوفة، الذين جابوا الروحانيات في القرآن بما لا يسع، فانقلبت عليهم روحانياتهم حماقات بهلوانيه يؤدونها وخرافات غيبية يعتقدونها. تلك الخرافات التي ترسبت في أذهان المجتمعات الاسلامية إلى اليوم.

ودعاة الإعجاز العلمي، قد نصبوا لأنفسهم نفس الفخ، ظنّوا أن القرآن به علماً يُستدل منه على ربانيته، يخلطون بين إشارة القرآن لمعجزاتٍ كونية حاصلة، وكون هذه المعجزات مذكورة بدقة في القرآن، برغم أن القرآن لم يدقق في تفصيل أي شئ، بل كثر اعتماده على المجاز، والمجاز يتنافى تماماً والدقة العلمية إن هذا الغلو سيكون حتماً ركن سقوط دعاة الإعجاز مستقبلاً، حتى وإن اجتمع لهم الناس بالإيمان في آواننا هذا، فالأكاذيب والتلافيق اللائي يطللقونها تنكشف أمام العلم يوماً بعد يوم.

الدعوة للدين دعوة سامية، تعبر عن الرغبة المكمونة لدى المتدينين في أن يُصيب غيرهم حظاً مما أصابهم، فيعتنقوا الحق كما يتبعه المتدينون، ولو صدقوا لدعوا إلى وحدانية الله من دون دين بعينه، وتركوا العثور على الدين الحق مسعى الإنسان المؤمن بربه، لكن العادة جرت على الدعوة لدين دون غيره. والمصيبة الواقعة تحدث حين يتلوى صاحب الدعوة أو يُلفق ليرجح كفة دينه، فحال إكتشاف كذبه لن ينهار الدين وحده بل سينهار معه الإيمان.

تتمثل خطورة الدعوة الإعجازية-أي القول بإعجاز القرآن علمياً على الخصوص-في تعريض الإيمان ذاته للخطر، فالرد المتوقع على القول بدقة القرآن العلمية هو أن يتم تفنيد القرآن بمنظار علمي، لتتصادم مجازيات القرآن مع العلم التجريبي، ويبدو القرآن كتاباً للخرافات والأساطير، يهزأ منه الملحدون ويرتعد إثرهم المؤمنون، حينها ستكون الخسارة عامة على جمهور المسلمين، فسقوط الإعجازيين بات مقترنا بسقوط الإسلام، لا سيما أن الإيمان بالإعجاز العلمي اصبح من قوانين الإيمان كأنما هو ركن الإسلام السادس، وتلك كارثة ما لزم أن نفتح الباب لحدوثها يوماً أبداً...
__________________________________________

  ،

قال السيوطي(1): اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم من المعارضة وهي إما حسية وإما عقلية.
وزيادة في الايضاح، فالاقتران بالتحدي، يستشرط العلم بأي معجزة قرآنية منذ-نزول القرآن-لأن الإعلان من ضروريات التحدي. أما سلامة الاعجاز من المعارضة، فيستشرط الوضوح والجلو، وينفي الاعجاز عن أي كلام مجازي يقبل التأويل بأكثر من وجه، لأن المعارضة تتأتى من الإبهام والغموض.

أما أن يكون الإعجاز علمياً فيستوجب-أيضاً-الإتيان بمعرفة جديدة غير معلومة من قبل-في آوان البعثة-، وأن تتفق هذه المعرفة والعلم التجريبي الحديث، لا مع مجرد علوم تنظيرية تقتصر على الملاحظات، لأن العلوم التنظيرية متغيرة أما التجريبية فثابته بثبات محيطات التجريب. أخيراً، لا يمكن تحليل معان آي القرآن مطلقاً إلا من خلال لغة العرب الأوائل، لأنه نزل بلغتهم، لا لغة العرب المعاصرين.

من أمثلة الاعجاز الذي ينطبق وتعريف السيوطي، فصاحة القرآن، فهي أمر خارق، ولم يقف القرآن عند حد فصاحته، بل شدد في مواضع كثيرة على ان الفصاحة دليله انه من عند الله، بل وتحدى الناس جميعا قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً-الاسراء 88-وكذلك تجد تلك المعجزة سليمة من كل معارضة، وسلامتها كانت لأمرين، أولهما الجلو، فلا مجاز ولا تأويل، وثانيهما أن أحداً من العرب لم يأت بمثله، فهو معجز-أنه أعجز القوم-وفصاحته معجزة.

كيث مور keith moore، عالم الأجنة الكندي وكتابه the developing human الذي يعتبره الإعجازيين برهانهم على معجزة مراحل نمو الجنين، معجزة العيار الثقيل، التي أكدها عالم ليس على دين الإسلام، فبين صفحات الطبعة الثالثة تجد المقارنات المتشابكة بين كلام القرآن ونتائج العلم الحديث بخصوص الأجنة.

لكن نقطة شائكة وخطيرة يتم تجاهلها دوماً عند تناول موضوع الكتاب، إن الطبعة الثالثة من الكتاب لم تصدر عن مور وحده بل ساعده فيها عددا من مشايخ الإعجاز على رأسهم الشيخ عبد المجيد الزنداني اليمني أحد الأذرع الأساسية في قوام هيئة الإعجاز العلمي!!!

وفي الفيديو التالي، يوضح لنا كيث مور أن مشايخ الإعجاز هم من ترجموا له كلام القرآن:


الكتاب لا يحمل قصور علمي، فمثله مثل أي كتاب في علم الأجنة، أما الجانب الإسلامي منه فهو على عهدة المشايخ الأجلاء، يلصقون معانٍ علمية بكلمات بسيطة لا علاقة لها بالعلم، يقولون أن النطفة حيواناً منويا وأن الأمشاج زيجوتاً وأن العلقة هي الشئ المعلق، فالقضية مازالت متمثلة في ليهم أعناق الجمل حتى تتوافق ومثل ذلك الكتاب ذو الحلة العلمية.

وفي موضع آخر يوضح لنا كيث مور أنه عمل ذلك الكتاب رغبةً منه في مساعدة المسلمين على فهم كتابهم، فالقرآن حقا تكلم عن الأجنة ببساطة وسطحية، لكن فهماً عميقاً لعلم الأجنة سيساعد المسلم على إدراك عظمة خالقه، ولا علاقة للأمر بالإعجاز من ناحية كيث مور، فهو ليس بحجة لأي من المتنازعين حول الإعجاز العلمي(2).
_______________________________________________________
(1)العلامة الجليل-حباه الله-جلال الدين السيوطي في كتابه الاتقان في علوم القرآن (ج2، ص116)