"مشروع اعادة احياء الدين، كجزء خاص وحيوي من المشروع الاكبر: مشروع اعادة قراءة التراث، يُمكن تمثيله في عملية قراءة واعيه بمجريات تحرك وتجدد الحالة المجتمعية(كمراعاة ضرورية لنسبية التفهم) تهدُف بالأساس إلى الكشف عن مغزى وفحوى(جوهر)النص الديني متجاوزه عن حرفية النص وظاهره، وذلك اعتمادًا على منهجية نقدية علمية في القراءة: تتبنى الشك في صحة وصلاحية النص المدروس كمحور للتساؤل-خلاف التداول التقليدي للنصوص، الذي يتكئ على النقل ويتسم باليقين والحسم الذهني-، كما تقوم بافتراض خصائص علمانية(1) للنص تُمهد الطريق امام اساليب البحث العلمي المختلفة في تفكيك قوالب اللغة وتحديد "مغزى" النص(2)"
لكي ينجلي الإبهام عن هذا التعريف الجاف، يُمكننا ان نُجري محاكاة(3) له على مسألة ما، ولتكن مسألة "السحر والحسد": يتخذ مسلمو اليوم الكثير من الاحتياطات لدرء شرور الحسد والعين، وهم يُنشئون ايمانهم بوجود وبضراوة الحسد على انه ذُكِر بالقرآن. وبلُغة هذا المقال نقول: انهم يستندون في تدينهم بالحسد إلى ظاهر النص القرآني. والمُسلمون في الوقت ذاته يتنكرون للأيمان بالسحر، بل ويستجهلون الدجاجلة والعرافين ومن يلوذ بهم، على الرغم من ان المحل الوحيد الذي ذُكرت فيه كلمة الحسد بمعنى العين التي تضر في القرآن قد لازمتها كلمة السحر بمعنى الشر الذي يزاوله المشعوذين (سورة الفلق، في قوله: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ. فالنفاثات في العقد هن الساحرات)، اما بقية المواضع التي استخدمت فيها كلمة الحسد فمجازا بمعنى الحقد والضغينة (مثل البقرة 109)، وكلمة السحر لم تُذكَر إلا في سياق القص التاريخي (مثل البقرة 102) (4). هُنا يأتي طرح مشروع اعادة القراءة بعقد موازنة بين واقعنا المعاصر الحافل بالمنجزات المادية وبين زمان الوحي الذي عمت فيه الخرافة والاساطير، فيتجلى امامنا ان استحضار دلالة السحر والحسد في القرآن كان اخذا وردا على مجريات البيئة العربية آنذاك، وهكذا، دائما تبدأ حركة المشروع من ارضية علم الرواية(5) ثم تنطلق في آفاق علم الدراية كاشفة عن المغزى الكامن وراء النص الحرفي، ثم تترك الباب مفتوحا لمجريات قولبة هذه الفحوى في سياق تقدمي حداثي، لئلا يكون الدين عائقا عن التقدمية ولكي لا تدفعنا التقدمية إلى تنحية الدين.
وبفضل هذا المنوال التدرجي: دراية\مغزى\مسايرة، يستحيل ان يُتهم المشروع بانه دعوة تلفيقيه تعمد إلى تلوين النصوص(6)، فعلى النقيض من المحاولات التلفيقيه التي تبدأ من الايديولوجيا ثم تُجري عملية اسقاط ايديولوجي على نصوص الاسلام (مثل بعض التأويلات التي تعمد لتقبيح صورة مِصر من خلال القرآن-سورة يوسف بالتحديد-واعتماد البعض الاخر على نفس السورة في اثبات ان مصر بلد الامن، وكلا الموقفين التلوينيين من السورة يعمد إلى اهدار البعد القصصي والتاريخي في السورة، التي تهدف بالأساس لسرد سيرة احد الانبياء، ولا دخل لها بأمن مصر ولا بظلم حُكامها)، فالمشروع يبدأ نهجه بالتعامل مع النصوص الاسلامية تحاشيا وتجنبا للتلوين.
_____________________________
_____________________________
(1) برغم ان مصطلح العلمانية صار مثيرا للذعر في مجتمعاتنا العربية، كنتيجة لابتسار العلمانية في "الفصل بين الدين والحياة" من قبل القوى الاصولية-التي تُغذي ادراكنا بابتسارات متعمده هنا وهناك، فالعلمانية والماركسية والداروينية محض إلحاد، دون إلمام حقيقي بالدلالات الاصلية وراء هذه المصطلحات-. ونحن لا نعفي العلمانيين العرب من المسئولية عن هذا التشوية، فلتصرفاتهم المختلة دور كبير في تزييف الوعي العام. إلا اننا-برغم ذلك كله-نُصر على استخدام المصطلح في محله الاصلي: فللمصطلح دلالته على التعامل مع الامور بصفتها جزءا من هذا "العالم"-مصدر اشتقاق كلمة العلمانية-، مُهمشين-اثناء اجراء الدراسة- اي دور ميتافيزيقي في القضايا المدروسة.
(2) للاستفاضة حول مشروع اعادة القراءة والتعمق في آلياته، راجع الباب الثالث من كتاب "نقد الخطاب الديني" للدكتور نصر حامد ابوزيد.
(3) نقول محاكاه ولا نقول تطبيق فعلي، لان التطبيق الفعلي لعملية اعادة القراءة ينبني على اسس علمية بحثية تستغرق فترات زمنية طويله وجهد شاق عسير يبذله اصحاب العلم والمعرفة. ناهيك عن ضيق المساحة، والطبيعة الإيجازية لهذا المقال.
(4) راجع "الفن القصصي في القران لـ محمد احمد خلف، حتى تتبين من دلالة ذكر الفاظ معينة في القصص القرآني.
(5) يشمل "علم الرواية" على كل ما يتعلق بالقوالب اللغوية والاسانيد واسباب النزول واحكام النسخ وغيره من الامور التي تُساهم في تكوين وعي حقيقي بمدلول النصوص، اما علم الدراية، فيختص بتوضيح هذا المدلول.
(6) للاستفاضة حول الطبيعة التلوينية والتوفيقية لبعض مُحاولات احياء الدين، راجع الباب الثاني من كتاب "نقد الخطاب الديني" للدكتور نصر حامد ابوزيد.،
كثيرا ما يَحتَّج ذوي الدعاوى الاصولية على مشروعية قراءة النصوص الدينية بأسلوب نقدي يفترض لها خصائص علمانية: بحكم ان هذه النصوص إلهية المصدر، لا يجوز التساؤل حول صحتها، وإلا مسسنا قدسية هذه النصوص، ولا يحق لاحد ان يزعم علمانيتها، فهي بالفعل تنتمي لعالم ميتافيزيقي يحتوي عالمنا المادي كجزء منه.
ــ أولا: إن التساؤل النقدي في التعامل مع النصوص الدينية ليس تساؤلا حول صحة النص ذاته، فهذا الامر ليس بجديد، بل هو مُتبع لدى المسلمين منذ زمن طويل، لكن محور الشك الحقيقي في هذه الدراسة يختص بالدلالات المُستنتجة من النص، والتي تعتمد كليا على المعلومات المحيطة بالنص (علم الرواية)، وعلى العقول المُستفهمة عن معنى النص، فالدراسة النقدية لا تمس الدين بقدر ما تُجري ميكانيكياتها الفحصية على التدين.
ــ ثانيًا: إن قدسية الشيء مُرتبطة بتقديسنا اياه، فلا وجود لمقدسات مُطلقة-كما يتضح من فقرة نسبية التفهم-، لذلك تجد بؤرة التقديس تضيق وتتسع بحسب وعي الافراد، فبينما يُدرك القليلون ان الحقيق الوحيد بالقداسة هو الالهي المطلق، يمدُ الاخرين دائرة قداستهم لتشمل نطاقات بشرية (مثل تقديس اقوال الفقهاء والقديسين). الجدير بالتأمل هنا هو ان الفرد ما دام هو مصدر التقديس، صار هذا الفرد قادرا على تقرير مُقدساته، ومن غير المعقول تماما ان نُصدق ان ثمة دراسة-وان كانت نقدية-لنص ديني مُقدس تستطيع ان تُزعزع اركان قداسته المُترسخة في النفوس!
ــ ثالثا: يتغافل الاحتجاج بشكل عمدي عن البُعد البشري في النصوص ليُبرز الجانب الالهي ويجعل الاخير يطغى على الاول، والواقع يُملي ان النصوص تحتوي الشقين، فكما قال الامام علي رضي الله عنه: هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين. لا ينطق. إنما يتكلم به الرجال، فنحن دائما ما نستند للعقل البشري في إدراك دلالات اي نص، لا سيما النص الديني، فالطابع الرسالي للقرآن يجعله كتابا مُستفهَم عن دلالاته بواسطة العقل البشري. فاذا عزلنا العقل تماما عن النص، استغلقت النصوص واستحال فهمها. وما دامت هناك تفهمات عدة لدلالات النصوص، فلنا ان نقول إن العقل البشري-شئنا ام أبينا-"كان" و"لا يزال" يستفهم عن دلالة النص (فلا مجال للقول بتحريم إعمال العقل في نصوص القرآن إذًا!)، والسجال هنا يدور حول كيفية استخدام هذا العقل: هل نعتمد العقلية النقلية التي تركن إلى ما استنبطه السلف والذي-قطعًا-يرتبط بمجريات زمانهم؟، أم نعمل على استغلال الميكانزمات النقدية الحديثة التي تبني جسرا متينا بين الواقع ومغزى النصوص؟
وكمزيد من الايضاح نقول: ان الفكرة الإلهية في الوحي تقولبت منذ البداية في اللغة العربية، وهي لغة بدلالاتها وقوالبها الصرفية والنحوية، لُغة بشرية. حتى وان افترضنا جدلا ان اللغة العربية لغة ذات طابع إلهي، فان هذا لن يُغير من الامر شيئا، فالعقول المُستفهمة عن دلالات هذه اللغة العربية-كما ابنا-لا تزال عقولا بشرية تنتمي الى هذا العالم ومادته. اذن فالإلهي(الفكرة)قابع في البشري(اللغة)، فالأول يتصرف حتما تبعا لخصائص الثاني. ناهيك عن تاريخية تلك النصوص، والتي تتجلى في علاقة ديالكتيكية(1) بين الإلهي والانساني، فدَفعةُ الوحي اولا من الإلهي، ثم ردة فعل استفهامية من البشري تُغير في دلالة المعنى وتحوره، ثُم حادثة تاريخية مُرتبطة بالواقع المادي، يُعلق عليها الوحي بالرد فيصير الالهي متأثرا بالإنساني، وهكذا دواليك، حتى بعد نياحة النبي-عليه السلام-بقيت العلاقة الجدلية قائمة: فالمئات من المُفسرين والناقلين لأقوال وافعال النبي البشرية تجاه الوحي الالهي، الذي تأثروا به أولا، ثم اثروا فيما نقلوا بأفهامهم البشرية حين علقوا عليه، والجانب الالهي يلعب دوره من خلال خطرات خفية بين الحين والاخر تَرد إلى عقول المُستفهم البشري(تلك الخطرات التي اعتزت بها ومجدتها جماعات الصوفية)، وهكذا تباعا حتى وصلتنا تلك النصوص...التي آن الاوان لأن يتم تحليلها بأسلوب علمي يضمن لنا استنباط جوهرها الإلهي وتحاشي ظاهرها البشري...
______________________________
(1) العلاقة الديالكتيكية، او العلاقة الجدلية، هي العلاقة بين امرين يتبادلان ادوار المؤثر والمؤثر عليه، حيث لا علاقة سببية مباشرة بينهما.
،
_________________________________
(1) هناك مبحث مُختصر ورائع بخصوص عصر النهضة في الفصل السادس عشر من رواية عالم صوفي لـ جوستاين غاردر.
(2) فلورنسا، مدينة في الجزء الشمالي من وسط إيطاليا، كانت أولى المُدن الأوروبية التي اسهمت في عصر النهضة.
(3) ابو الوليد ابن رُشد، فيلسوف اندلسي مُسلم، عاصر دولة الموحدين (القرن السادس الهجري)، تُعتبر مؤلفاته عنصرا اساسيا ساعد على اندلاع الفكر العلماني في اوروبا، وخصوصا كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال الذي دعم الدعوة لفصل الكنيسة عن الدولة بالبرهان الذهني.
(4) العصر الهيليني (يُطلق عليه ايضا اسم الحقبة الكلاسيكية)، القرن الرابع قبل الميلاد، عصر تميزت فيه الفلسفة اليونانية وسادت العالم، ولقد كانت حركات اوروبا تجاه التقدم بمثابة محاولة لاستعادة امجاد ذلك الزمان.
(5) انظر اصل كلمة رينيسانس في ايا من قواميس الايتومولوجيا Etymology.،
بقي ان نشيد بهؤلاء المسلمين الذين لا يتاجرون بدينهم، الذين يوقنون بطبيعتهم البشرية ويعلمون حق العلم انهم لا يمتلكون الحقيقة المطلقة، الذين يتواضعون بحق امام الجماهير، فلا يخادعونها بمكر دميم فيدلسوا عليها الحقائق متحججين بحجج واهنه كضعف عقول الجماهير او سذاجتها، او ان تنويرها خطأ جثيما!، فهؤلاء-الذين نشيد بهم-لم يلعبوا دور الوصي على الجموع الغفيرة عكس ما تفعل غالبية الجماعات الاسلامية. الزعامة التاريخية: في هذه الاشادة، لجماعة المعتزلة التي انسحقت في محاولة مبكرة لتنوير العقول الاسلامية قبيل نهاية القرن الثالث الهجري، ورؤوسها امثال واصل بن عطاء والجاحظ وغيرهم قد سبقوا العالم كله في التطلع إلى البحث النقدي في امور الدين والدنيا. والزعامة الروحية: فلرؤساء التصوف الذين ألهبوا ارواحنا شوقا وحبا تجاه الذات الالهية، وقدموا لنا نقله حقيقية في نظرتنا للخالق، على انه الحبيب لا الملك المتجبر العنيد. والزعامة الشعبية: تتمثل في هؤلاء التنويريين الذين ارسلهم الله لامتنا على رأس القرن العشرين، امثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد مصطفى المراغي وشيخ الأزهر الأسبق شلتوت وعبد العزيز جاوي ومحمد فريد وجدي وعلي عبد الرازق وغيرهم وغيرهم من الذين بثوا نفحات التعقل في اذهان جماهير الامة ومهدوا الطريق بحق لتلك الدراسة النقدية التي ننادي بها اليوم بغير تخوف او ذعر. اما الزعامة العقلانية: فلجماعتنا، جماعة المتحررين، التي بدأت صراعها العتيد مع الاصولية في الربع الاخير من القرن الماضي، والتي شرعت في تحويل الصراع الدائر مع الاصوليين إلى الدراسة النقدية العلمانية وتخلصت-اخيرا-من الدوران في دوائر التلوين والتلوين المضاد للتراث، فاستطاعت اخيرا ان تكشف بمرآة العقل النقدي والتحليل المنطقي عن زيف الدعاوى الاصولية وحماقتها، فرفعت الاصولية سيوفها ايذانا بالحرب التكفيرية-التي وصلت لحد الاغتيال-على رواد حركة التحرر، الذين ابوا-بدورهم-إلا استمرارا يؤمن جوهر الاسلام من شرور اعداؤه الحقيقيين، وحال هؤلاء الاصولييون بعنادهم كحال من نزلت فيهم الآية الكريمة:
"وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ
آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ
يَهْتَدُونَ" (البقرة، 170)