الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

حُلم يُعتد به كنبوءه



-أنا لا اعرف شيئا... انا فقط خرقة باليه... لماذا تحيطينني بهذا الاهتمام وتصغين إلي هكذا كأن ما سأقوله شيئا ذا قيمة!

-لا يهم... فقط تحدث... وسأظل هكذا اقطع الغرفه ايابا وذهابا وانا انصت إليك... وابتسم كلما اعجبني ما تقول... هيا تحدث.

-رجل عريض المنكبين متكئ في فراشه، محموم... لانه مصاب بثمة جرح خطير، لانه محارب. تجوب غرفته امرأة، تحبه وتنصت إليه وهو يتحدث إليها عن العديد من الذكريات... اووه... اتعرفين كم مرة صغت المشهد ذاته في كتاباتي؟

-اعرف... لان هذا هو أول حلم حلمته في طفولتك... وانت تعتقد ان هذا الحلم نبوءه... حتى قبلتي التي سننهي بها المشهد... ودموعي المالحة التي ستنسال إلى جوفك، تلك التي ستلعقها من على خدي... كل هذا انت تنتظر تحققه...

-اووه... نعم... تماما كما تقولين... انني اعلم في قرارة نفسي... مثلما يؤمن قس بالله... ان هذا اليوم الذي اكتب عنه كثيرا سيتحقق في نهاية المطاف... نعم... قطعا ساتذوق دموع عشيقتي المالحه وانا على فراش الموت.

-ها انت ذا تذكر الموت فتهيج مشاعري وتدفعني للبكاء!

-لا لا ارجوكي.. ليس الآن... فهناك الكثير والكثير مم اود ان اقصه عليك قبل ان تبدأي في البكاء فاموت...

-حسنا... لكن لا تسرف في العاطفه... فانا كما تعلم... شديدة التأثر...

-اذن دعيني ابدأ على الفور... بذكرى المنزل البدائي في تلك المدينة الساحليه. لقد زرت المنزل ذاته منذ مده قصيرة مع اصدقائي. حين وقعت عيني على الباب شعرت بالحنين إلى الطلاء الداكن المختلط بالصدأ. فتحت الباب ومررت من الفناء المغطى بالسقف الحديدي الصدئ ايضا... كل شئ كما هو، والغريب ان عيناي لم تستغربا المشهد بل ألفتاه. اقول انني من كثر ما قضيت من ايام طويله في هذا البيت الصغير فقد صار جزءا مني احمله معي إلى كل مكان... لذا لم يكن هناك استغراب بل الفه شديده بيني وبين كل جزء من الاثاث... واللوحات ايضا المعلقه على الجدران البيضاء... تلك الزهريه المرسومة بالرصاص لكنها رغم ذلك تبدو حقيقيه... ولوحة سورة الرحمن المعلقه على الجدار المقابل للجدار الذي يحمل الزهريه... ودت ان ابقى فقط لاتامل واتذكر... لكن صديقاي كانا على عجل. فدرت وهرولت إلى الخارج... فمررت إلى جانب "المنشر"... ثمة احبال بلاستيكيه تمتد بين سيخين حديديين يخرجان من حائط الفناء... عادة ماكنا نفرد الملابس المبلله على تلك الاحبال حتى تجف... وكانت تقطر ماء باستمرار. فكانت قطرات الماء في طفولتي البعيده تبلل ملابسي إذا مررت بالقرب من هذا المنشر... اما اليوم وانا امر بجوار المنشر الجاف، الذي لا توجد عليه ملابس مبلله تقطر الماء... فقد انتابني شعور البلل ذاته... فاذا انا افزع ثم ابتسم واتعجب... يالروعة الانسانيه... ان الامر تماما مثل حلم!

اعذريني، لكنني لن اتوقف هنا عن القص... ساستمر، ساحكي لكي عن الحافله... حافلة الجامعه، التي ظلت تقلني يوميا إلى البيت وانا في غاية الاجهاد... ارتادها من الجراج الضخم الذي يعج بالحافلات المماثلة تماما... اجلس على مقعدها الضيق، ثم الصق سماعتي الاذن إلى اذناي، فتدفق الموسيقى فورا، واميل برأسي إلى النافذه.. اعدل الستارة بحيث تحميني من وبال الشمس وبحيث احفظ لنفسي في الوقت نفسه متسع اراقب منه الطريق... والصحراء والجبال.... ان هذه تسلية طيبه جدا... ان تطرق إلى الطريق... وانت تنصت للموسيقى... فترى الالحان تمتزج مع الاسفلت الساخن... ثم تذوب في الوسن... ثم لا يؤرقك إلا رجات الحافله تهدئ او تُسرع. فتلتفت إلى الداخل لترى فتيات وشبان يتبادلن حديثا طويلا عن المحاضرات والامتحانات... فتتذكر ايامك... حين كنت بدورك طالبا ترتاد حافله مماثله تقتادك إلى جامعتك انت... وسط اصدقاءك انت... الذين صاروا رموزا ساطعه في حياتك رغم انفك... رغم انك تكره الاصدقاء... إلا ان الحياة نجحت في ان تجبرك على تقدير عددا منهم... فقط لان زمنا طويلا مر على تعرفك إليهم.

لدي ايضا ما اود ان اقوله عن ذلك العام الحافل... الثورة والحب في عام واحد... ولسان الموت الذي التهم ذلك الخال... حرارة شديده تفوح من الرقم "حداشر" فقط لأنه يشير إلى تلك الاحداث الهائله... انني بدات في هذا العام منحلا تماما... وشغفت بالعشق... وتذوقت لذته الحارقة... وكتبت الشعر... ثم اشتركت بحمية الشباب في تلك التحركات والانتفاضات... انظر من بعيد فارى قالب الطوب يشق جرحا في يدي وانا اقذفه على تلك العربة السوداء... فتتخلل انفي رائحة الحريق ممزوجة بالدم... انظر من بعيد فاجدني مبهوتا عند المستشفى الخصوصي، فقد اعلمت بوفاة رجل اعرفه، وتلك كانت المرة الأولى... والشك... لا بد ان اؤكد انني اشك في كل شئ منذ ذلك الحين... لكنني حينئذ لم اكن قد تبينت ان الاجابات التي رضعناها في طفولتنا لم تكن متسقة بما يكفي لنرددها... وهذا لا يهم، فالمهم ان قلبي ينشرح كلما اتيت على تذكر برائتي... على تذكر سذاجتي في ترديد الاجابات المحفوظة... وعنادي المستعر في سبيل اثبات صحتها...

ثم الطابور في قلب الصحراء وسط الظهيرة.... وصيحات الشاويش المصحوبه برذاذ له رائحة البصل... وسباب الام والاهل الذي لا ينقطع... ونظرة الشفقة التي تحاصرني اذ احكي لرفاقي اي شئ مما يجري وسط المدرعات خلف الاسلاك الشائكة... وروايات هذا الكاتب الروسي الرائع...

-هل ابكي الآن؟

-كيف تسألينني؟ يُفترض بك ان تبك وقتما تشعرين بالحاجة لذلك...

-انا دائما اود ان ابكي لاني انظر إليك... انا ارى جروحك بعيني... انا ارى كم تتألم من الحضارة والنظام وارى كونك جزءا لا يتجزأ من النظام... ارى ميولك لليسار... وارى سعيك لجني المال... وارى كيف تعامل النادل بتكبر لانه من طبقة اقل شأنا من طبقتك... وما يدفعني للبكاء هو انني اشعر بتلك النار التي تختلج في صدرك فتجعلك تنطق وتهتاج وتسب وتكتب... لعنتي انني احس بألمك... وهو عظيم... ولعنتي انني اذوق مرارة حلقك... وهي لاذعه... تُذيب الاحجار... ولعنتي انني اشم عرقك المتعفن من منبته... هل استمر في سرد هذا ام نكتفي؟

-لماذا تسألينني؟ كفي عن هذا... اعرف انني الكاتب وانني اتحكم في كل شئ هنا... على الاقل حسبما تعتقدين... لكن الحقيقة غير ذلك... انني اكتب... احرك القلم بحيث يحتك بالورق بشكل معين ينتج حروفا وكلمات.. لكن هذا لا يفيد تماما إلى انني متحكم في الامر... الكتاب جميعا يعرفون هذا يا عزيزتي... اننا ننصاع في كتابتنا انصياعا والحق اننا لا ندري ما الذي نكتبه...

-هب ان هذا هو الامر... فانا هنا اسأل ما يحركك ولا اسألك انت... انا اسأل الوحي الذي يندفع في عروقك عن الحركة التاليه... لاني متعجله جدا لاداء المشهد... فانا اتحرق منذ السطر الأول إلى البكاء... ولا يمنعني إلا انني اريد ان البي اوامرك....

-اذن... فلتبك ولنبك جميعا... على ويلتنا قبل اي شئ... على حقيقتنا العارية.... على التعارض الرهيب بين فكرتنا وماهيتنا... على الندم والحسرة والوساوس التي لا تنقطع من رؤسنا... على عجزنا الوجودي...

-ااه... هل ارتمي إلى احضانك الآن؟

-تعالي يا عزيزتي... هيا ان دموعك تنهمر بوفرة.. وهذا يحقق النبوءه... هيا... هلا قبلتيني يا عزيزتي...

-تماما... ساقبلك حين تمر دموعي السخيه الحارقة على شفتاي... لتتذوق الملح كما هو مقدر.


-ثم اموت... وتنزاح عني قسوة الألم وكل شئ...