كان مرور نحو 570 سنة على المسيح كافياً لفساد
العقيدة النصرانية، كما حدث للإسلام فيما بعد، وكما حدث للديانة الزرادشتية
والبوذية فيما قبل. ذلك أن عقيدة الألوهية المجردة عن المادة والأجسام عقيدة صعبة
المنال لا يدركها إلا خاصة الخاصة، وإن أدركوها فسرعان ما ينسونها ويميلون إلى
الوثنية المألوفة الموروثة، لهذا أفسد العرب دين أبيهم إبراهيم وملأوا الكعبة
بالأصنام. وأفسد اليهود دين موسى فاتخذوا عجلاً جسداً له خوار إلهاً لهم، وقالوا
لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وهكذا. فالألوهية المجردة والاستمرار على
اعتقادها شاقة عسيرة. وقيل إن الإنسان ميال دائماً إلى التجسيد، لهذا فسد الدين في
كل أمة من الأمم، واحتاجت إلى نبي جديد(1). وجُل الأديان القديمة فسدت بطرق
مشابهة، فالزرادشتية فسدت ونسي المجوس كلام زرادشت وتزوج الملوك من بناتهم
واخواتهم، اما الهندوسية فقد حول أهليها المجتمع إلى طبقات وأفرطوا في الوثنية
بأمر الدين!

يتفشى أخيراً الجهل والانحطاط
في عوام الناس، يتسارعون في تلبية دعاوي الرجوع إلى أصل العقيدة فيأخذهم النص
أخذته ويضيع بين سعيهم الجوهر، يقهرون أنفسهم لتطبيق نصوصاً لا يفهمونها ظناً منهم
أنها الخلاص، يتناسون أن تلك النصوص قد حُرفت واكلتها السنون، يبررون في كل ليلة
نكبتهم ببعدهم عن الدين، ولرجال الدين في ذلك الطور خصائص بشعة، ندقق فيها لاحقا.
المعهود أن ذلك الحال قد
يمتد لقرون! شريطة وجود نظام حكم قوي يستمد قوته من هذا الدين، يُكره السواد على
ذاك الدين المتعفن ويأخذهم به، ولا يتخلص المجتمع من ذلك الجهل إلا بظهور دين جديد
يحرك في الناس قلوبهم، ليندفعوا من جديد في نفس العجلة حتى يفسد عليهم
الدين-الجديد-، أما إن لم يكن هناك دينا جديداً، تجد طَرقات خفيفة مرتعدة على باب
الإلحاد في بادئ الأمر، وما أن يذيع في الناس خبر الإلحاد ربما وجدت مجتمع بأسره
يحلق نحو الإلحاد، الذي هو مفتاح التحرر من قبضة رجل الدين القاسية.
ذلك التصور-السالف ذكره-حول
تمحور الأديان لا يكفي لدراسة تدفق الأديان بعمق، ذلك أنه مما يؤثر في الدين طبيعة
الشعب الذي يدين به والبيئة التي ينتشر فيها ذلك الدين وربما أثّرت بعض العوامل
كالحروب والنكبات والمجاعات وكثير مما لا يمكن إجماله في سطورنا القليلة، لكن ذلك
التصور يعطينا مؤشرات واضحة وبسيطة عن المراحل التي يمر بها كل دين عموماً، فهو
كلاسيكي بقدرٍ كبير، يتجاوز عن دقائق الأمور ويفند في عمومها، فتخرج منه بمؤشرات
عامة صحيحة تُدلّل على حالة وطبيعة الدين الذي أنت بصدد تفنيده.
(1)
مقدمة كتاب يوم الإسلام لـ أحمد أمين، نقلت
تلك السطور-وغيرها-كما هي، فلم أجد أليق منها ليعبر عما في خاطري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اخبرني عن رأيك...