الجمعة، 16 أغسطس 2013

كيف انجرفت الى تلك البؤرة؟


طالما نظرت إلى الدم على أنه أسمى المقدسات، فرفاهية النزاع السياسي عندي تزول بسقوط قطرات الدم، لأن القتل حتما هو أبشع الجرائم الإنسانية على وجه الكون، حتى أنني لا أستطيع أن أتصور جريمة اشد ثقلاً، فالقتل سلباً لحياة انسان من غير حق، والقتل ترميلٌ وتيتيمٌ وتثكيلٌ، والحالة الوحيدة التي يعاقب فيها الانسان (قانونيا \ فقهيا \ دستوريا) بالقتل تكون حالة ارتكابه للقتل العمد، وحتى في ذلك الحين لا يقتل مسفوكاً مهدراً بل توجب الشرائع (السماوية \ الدولية) احترام آدميته وإعدامه بطريقة تليق ببني الانسان.

لهذا كله كان انحيازي الدائم إلى صف المدنيين في مواجهة الأمنيين، فالمدنيون كانوا عُزل والأمنيون كانوا حُمّل بالسلاح والمؤن، ومع كل جثة تسقط كانت روحي ترتجف، والكون من حولي يدور، لكنني أقنع بعد حين، لأنني بعيدا عن الحدث، لأنني لا اعرف من مات، فليتولاه أهله ومن والاه، فهم أحق به، ثم اشتعلت نيران العنف الطائفي في مصر، واندفعت الأرواح متزاحمة الى السماء فبأي ذنب قتلت؟! وبأي حق تموت، يتبارز المشايخ والقساوسة-المنحرفون-في تهييج القلوب، فتزول الرحمة والإنسانية أبدا من قلوب البسطاء الذين ينجرفون وراء دعوات اغيثوا (دينكم \ المسيح)، فتبحث في صور القتلى لكي تتأكد أن الموت لا يعبأ كثيرا بهوية الانسان ودينه، وتكن واثقا من ان ملك الموت ليس عنصرياً.

بقيت هكذا دهراً اتعجب من الاستخفاف بالدماء.

الموت الطبيعي يختلف قطعا عن القتل، ففي الأول نهايتنا التي نرجو، وللثاني بشاعة لا توصف. لكنك تبقى منعما مادام القتل بعيدا عن ذويك، ففي الحقيقة يمكنك أن تتعاطف، ويمكنك أن تحزن، لكنك أبدا لن تشعر كما يشعر ذوي القتيل(الشهيد) إلا إذا انفجر لغماً دموياً بالقرب منك.

في ابريل\نيسان عام ألفين وأحد عشر، انفجر اللغم الأول وعلى مسافة ضئيلة من روحي، حتى انني قضيت وقتا انتزع شظايا الانفجار منها، فخبر موت رئيس هيئة الموانئ البرية اللواء حاتم عبد الوهاب زهران لم يأتيني عبر الجرائد أو وسائل الاعلام كما هي العادة، بل وصلني الخبر عبر المحمول، لأعلم بأن الخال والعم والأب قد قُتل، ذهبت الى مستشفى القصر العيني واجماً، ليتأكد الخبر، لأرى أهليه وأهلي واجمون مثلي، كلنا يحذونا الشك، لم ننتقل بعد الى الواقع، فمازال معنا وسيظل ابدا معنا تجاورنا روحه أيان نكون، لقد كان ذلك الرجل في حياته سنداً ودعما لشخصي ولأسرتي، وحتى بعد موته... فيما بعد خرجت علينا الصحف الصفراء تُدلس خبر مقتله على أنه حالة انتحار نتيجة لاكتئاب حاد كان يمر به، وهيهات ان اُصدّق، وهيهات ان يَصدِقُوا، فلا الصدق عادتهم ولا التصديق مَنطِقي، وهكذا أُغلق الملف وانتهى الأمر وعاد كل لمنزله، لكني لم أعد، لم استطيع النفاذ بروحي من هذه الأهوال.

تعاظمت لدي قضية القتل أكثر وأكثر، علمت بأهمية القصاص لما حُرمت منه.

اليوم العشرين من نوفمبر\تشرين الثانِ عام ألفين وأحد عشر، يوم الأحد بعد امتحان الالكترونيات (ميدتيرم، "تانية" اتصالات، كلية الهندسة جامعة القاهرة)، انطلقنا في مسيرة طلابية حاشدة تنديدا بالاعتداء الآثم لقوات الجيش المصري على مصابي الثورة المصريين، سرنا متكاتفين من الجيزة حتى وصلنا الى ميدان التحرير، هنالك تفرقت المسيرة بين مرابض في الميدان ومتهجم على قوات الأمن التي تحف شارع محمد محمود، رافقني يومها صديقان هما محمد علاء وخالد الخطيب، اشتعلنا بالحماس الثوري، واقتنى كل منا قناعا مضادً للغاز المسيل، وقرر ثلاثة شباب من مهندسي المستقبل الانضمام الى صفوف المتهجمين على قوات الأمن، وما هي الا لحظات لأجد محمد علاء مغشيا عليه، أحمله وأركض به بحثا عن الإسعاف، معظم المُسعفين كان انشغالهم بحالات اشد خطورة، فهناك جرحى بالمئات أولى بالانشغال، أما أصحاب حساسية الصدر الذين يتسبب الغاز المسيل في اختناقهم فلا مثوى لهم سوى كتفي. كم مرة أضحكتنا ذكرى هذا اليوم؟ لكن الضحك لا ينحي الجزع في داخلي، فصديق تحمله على كتفك وتصرخ بمن حولك اغيثوه، تأتيك خاطرة بأنه سيموت فتكاد تنفجر منك روحك، اضطرابا عجيبا يبقى في الروح مئات وآلاف السنين حتى بعدما تشرع في الضحك.

لو ان مكروها أصابه، هل كنت سأطالب بالقصاص من الغاز المسيل للدموع؟

ظل انشغالي بالسياسة عاماً من بعدها، ظناً مني أن في السياسة أملا كي نسترد حقوق قتلانا، حتى فاز هذا المرسي بتلك الانتخابات الهزلية-التي لم أشارك فيها-، انفجرت خلال هذا العام ألغاما محدودة المدى لكنها كانت قريبة مني، مثل لغم عبد الرحمن الموافي أسير العسكر الذي اشتعل لأجله اضراب كلية الهندسة في فبراير عام ألفين واثني عشر، فذلك الفتى كان معي في نفس الفصل في السنة الإعدادية بالكلية، وعلى الرغم من كوني لم اتعرف عليه مطلقا-لا قبل ولا بعد الاضراب-الا انه كان بمثابة نذيراً بأن الألغام قد تتفجر على مسافة اقرب مما تتوقع.

لكنها لم تكن قضية قتل، فقط تعذيب في سجن بدون جريمة حقيقية لا أكثر!

وفي زمن المرسي تحول مجرى الأمور من تدافعا بين الأمنيين والمدنيين إلى بوادر الحرب الأهلية، فهذا "القائد" قد حول الأمر الى نزاع بين فصائل الشعب (ثوار \ فلول \ اسلاميين) وصارت مجازر عند قصر الاتحادية باسم حماية الدين من الكفار كما ستجري مستقبلا مجازر باسم حماية الوطن من الإرهاب، ومع ارتفاع موجات الشحن الإعلامي المتبادلة من كل الأطراف المتطرفة تجد أول ما يُبذل هو الدم، دماء تراق بلا سبب، وكأن القتل سيولد التعايش، وكأن القتل سيجلب شيئا ثميناً. وفي ضوء هذه المعارك الوطنية "النبيلة" كانت نفسي تتطوح مع كل صرخة مدوية يطلقها ضحايا التطرف السياسي الغاشم، فاعتزلت السياسة، اعتزلت الأخبار، وحتى السجالات السياسية على شبكات التواصل الاجتماعي اعتزلتها أيضا، تقريبا لم اترك في حياتي شيئا سياسيا واكتفيت بالعلم والثقافة التاريخية سلاحين احفظ بهما لنفسي وزنا في زمن لم يعد لأي منا فيه وزن. وفي يومٍ من أيام ابريل\نيسان عام الفين وثلاثة عشر، وصلت الكلية وحماسي يدفعني نحو المحاضرات، فوجئت بلغم جديد ينفجر، اعتقال عمرو ربيع ومجموعة من خيرة شباب هندسة القاهرة في أحداث جامعة المنصورة، وهكذا مجددا انجرفت الكلية في اضراب آخر لاستخراج حق زميلنا من قلب قلاع الظلم العسكري، لكنني حينها كنت بارداً لم أُصاب بالرجفة المعتادة، فقد تباعدت المسافة بيني وبين الواقع، صرت روحانيا أكثر من اللازم.

سألني أحد المقربين عن رأيي في "تلاتين ستة"، فأجبته بأن للمرسي طبقة عريضة من الشعب تؤيده، لذا فرحيلة مقترن بحرب أهليه ضروس تأكل الحابل بالنابل، وها قد كان، جاء الانقلاب العسكري في مصر بويلات لا طاقة لنا بها، لكنني احترز من السياسة فهي تقطع القلب وتطفئ نور الحياة، فقط أُطلق صرخات في وجه من يهون من احداث الحرس الجمهوري بأن "في ناس ماتت وأن ذلك القتل لا يُغتفر"، لكن معظم من اعرف من الأشخاص لا يقدرون لوعة القتل ويصرخون بصوت أعلى عند حرق مصحف أو تفجير كنيسة أو انقطاع كهرباء.


خالد الخطيب

في حديقة الأزهر واثناء إفطار رمضاني شهي،  تفجر من بين الصحون الدسمة لغم عنيف، حيث أخبروني أن خالد الخطيب معتقل لدى أمن الدولة، ذلك الحليم الهادئ في المعتقل!، تذكرت أول مرة رأيته في السنة الإعدادية حيث عملنا معا في مشروعا للتذكرة بالقضية الفلسطينية، لم أحبه حينئذ، لكن مرور الأيام أثبت لي أنه يستحق أن يكون قطبا من أقطاب الفكر الإسلامي الحر الذي يختلف وبشده عن الخراف التي تردد هتافات "جيش محمد سوف يعود" من دون وعي بالتراث الحقيقي للأمه، أما الخطيب فهو رجل ذو ذوقٍ فنيٍ مختلف، وله آراء فلسفية عميقة، تعجبت ان اسلامياً مثله يفكر بهذا المستوى، تذكرت بحنو شديد رحلتنا سوياً في الثورة، تذكرت على وجه الخصوص يوم عملنا معا في التحريض على اضراب عمرو ربيع.

طال الوقت ولا عمل بين أيدينا كي ننقذه من وحوش العسكر، وكنتيجة حتمية لابتعادي عن شبكات التواصل الاجتماعية فاتتني الوقفةالتي خصصوها لخالد الخطيب عند مكتب النائب العام، سأتحرج حتما من النظر الى عينيه عندما يخرج الينا سالماً، لأنني وغدٌ كبير.

استيقظت في الرابع عشر من أغسطس الحالي وارتديت ملابسي، تجهزت ذاهبا للعمل، وصلتني مكالمة هاتفية تُنبئني بفض اعتصامي رابعة والنهضة، تلقيت الخبر كالصاعقة، فهذه الضربة ستقضي على الوطن، لا والله لن ينتصر أحد، لكن القيادات المتطرفة على الجانبين لا ترى سوى شهوة السلطة العمياء. كثير من المصريين ضاعت انسانيتهم، صاروا وحوشا ضارية تقتل لأتفه الأسباب، كان مؤكداً لدي ان عدد الضحايا سيؤول للمئات، لكني ما كنت أتصور ان أحداً ممن أعرف سيندرج في قائمة الضحايا.

مرّ يوم الفض وارتجفت روحي لهذه الدماء التي اريقت، لكن عقلي كان متزنا الى حد كبير، بكيت كل قتيل رأيت صورته دون الالتفات طويلا للهوية، وأخذني الفضول لأن ألقى نظرة على شبكات التواصل الاجتماعية، ففوجئت بالتطرف يدب في كل مكان، وكل امرئ يبكي على ذويه فقط، يبكي على خاصته وعشيرته، ويسب ويلعن فيمن عاداهم، نسي هؤلاء ان الوطن إذا قتل ابناءه بعضا ما بقي وطناً.

اكتشفت اثناء تصفحي لـtwitter  أن كلية الهندسة قد احترقت ونُهب أغلب ما فيها من معدات، طال بي العجب، كيف تحولت الأيدي الآثمة من القتل الى احراق هذه القلعة العلمية؟، انها العقلية المصرية التي تصور حرق المباني الحكومية على أنه اشد ضراوة من القتل، لكنني لست مثلهم، فاحتراق الكلية هو الحدث الهين في تلك الأيام، ثم فوجئت بتفجير بشع في لبنان أتى ليزيد الطين بله، كي يتأكد لدى الجميع أن الوطن العربي كيان واحد حتى في التطرف والعنف. ثم هالني انفجار اللغم الهائل، سمعت دويه في أعماق نفسي، وهمسات "لا، لا يمكن ان يكون" التي انطلقت خافته من فِيِ لم تكن الا انعكاساً لصرخات موازيه خرجت من روحي التي ارتعدت، من ضمن خمسة عشر ضابطاً ذُبحوا في قسم كرداسة، كان اثنان هما أبوين لاثنين من زملائي في الكلية بل من أصدقائي المقربين، والد الطالبة\ناريمان مصطفى الخطيب وعم الطالبة\غادة محمود أنور.

 توصلت إلى غادة عبر الهاتف فقالت لي: "ما أشبه اليوم بالبارحة، تذكرتك تحكي لنا ما جرى لخالك اللواء الذي قُتل"، حادثة الذبح مروعه بكل المقاييس حتى انني لم اتجرأ على مشاهدة صورها، لكن الترويع الحقيقي كان في أعماقي، فهذا اللغم لم يكن معمول حسابة قط، لقد جاء قريبا لدرجة لم أتصورها قط، وجاء قويا بطريقة لم أفهمها...

أستطيع الآن أن اندم، أن أندم على تلك العزلة الني فصلتني عن الواقع، فقد كنت ألهو لاعبا حين قُتل من قُتل من خاصتي، ولم أعرف إلا بمحض الصدفة، كل ذاك لأنني أتجنب الفتنة، لأنني أريد أن أحفظ اعصابي هادئة ونفسي مستقرة، بعيدا عن الدماء واللغط، لكن الثمن صار غاليا جدا.

كيف انجرفت الى تلك البؤرة؟، كيف تحولت من ثائر إلى شخص اعتزل الحياة المجتمعية؟

الخلاص الحقيقي تجدونه في الإنسانية، فلو حكّم القاتل انسانيته لما قتل، ولو حكم الشامتون انسانيتهم لما شمتوا، أتمنى أن يخرج كل منا رغم تلك الاحداث الدموية "انساناً" يعرف ويقدر معنى الحياة. حقيق أن السلبية المبالغة التي أمارسها بانعزالي التام عن المجتمع لها أضرارها، لكنها على الأقل تحجبني عن القتل والاقتتال الذي ربما ينجرف اليه أي مصري الآن عاقل كان أو جاهل.


رحمة الله على شهداء الوطن أجمعين إخواناً كانوا أو أمنيين.