القرآن منهج دعوي بسيط، يفهمه العامي حين
يدعوه للتأمل بالسماء، فنظرة العامي إلى السماء وتلألؤ نجومها وسطوع شموسها
وأقمارها، تبعث عنده إيمانا بمدمبر هذا الكون وعظمته، وهكذا الفلكي ذو المعرفة
الواسعة لحركات النجوم، وسيرها ونظامها
وخلقها وابعادها، أقدر على معرفة العظمة، وأشد إعجاباً بخالقها ومدبرها، وهكذا
الشأن بين الناس مهما اختلفت مداركهم، فكلهم صالح لأن
يتأثر بهذا المنهج الدعوي الذي يثبت وجودية الخالق، وحدانيته.
كل من غلا في القرآن هزمه غلوه، بداية من
الخوارج الذين افرطوا في الأخذ بظاهره، ففتكوا بأنفسهم، وجماعة المعتزلة الذين
اسرفوا في مَنطَقة القرآن-الكشف عليه بالحجج العقليه-ففسد عليهم الدين، لأن الدين
عماده الروح دعامته العقل لا يصح بأحدهما منفرداً، وعلى درب الغلو سارت جماعات المتصوفة،
الذين جابوا الروحانيات في القرآن بما لا يسع، فانقلبت عليهم روحانياتهم حماقات
بهلوانيه يؤدونها وخرافات غيبية يعتقدونها. تلك الخرافات التي ترسبت في أذهان المجتمعات الاسلامية إلى
اليوم.
ودعاة الإعجاز العلمي، قد نصبوا لأنفسهم نفس
الفخ، ظنّوا أن القرآن به علماً يُستدل منه على ربانيته، يخلطون بين إشارة القرآن
لمعجزاتٍ كونية حاصلة، وكون هذه المعجزات مذكورة بدقة في القرآن، برغم أن القرآن
لم يدقق في تفصيل أي شئ، بل كثر اعتماده على المجاز، والمجاز يتنافى تماماً والدقة
العلمية إن هذا الغلو سيكون حتماً ركن سقوط دعاة الإعجاز مستقبلاً، حتى وإن اجتمع لهم الناس
بالإيمان في آواننا هذا، فالأكاذيب والتلافيق اللائي يطللقونها تنكشف أمام العلم يوماً بعد يوم.
الدعوة للدين دعوة سامية، تعبر عن الرغبة
المكمونة لدى المتدينين في أن يُصيب غيرهم حظاً مما أصابهم، فيعتنقوا الحق كما يتبعه المتدينون، ولو صدقوا لدعوا إلى وحدانية الله من دون دين بعينه، وتركوا العثور على الدين الحق مسعى الإنسان المؤمن بربه، لكن العادة جرت على الدعوة لدين دون غيره. والمصيبة الواقعة تحدث حين يتلوى صاحب الدعوة أو يُلفق ليرجح كفة دينه، فحال
إكتشاف كذبه لن ينهار الدين وحده بل سينهار معه الإيمان.
تتمثل خطورة الدعوة الإعجازية-أي القول بإعجاز القرآن علمياً على الخصوص-في تعريض
الإيمان ذاته للخطر، فالرد المتوقع على القول بدقة القرآن العلمية هو أن يتم تفنيد
القرآن بمنظار علمي، لتتصادم مجازيات القرآن مع العلم التجريبي، ويبدو القرآن كتاباً
للخرافات والأساطير، يهزأ منه الملحدون ويرتعد إثرهم المؤمنون، حينها ستكون
الخسارة عامة على جمهور المسلمين، فسقوط الإعجازيين بات مقترنا بسقوط الإسلام، لا
سيما أن الإيمان بالإعجاز العلمي اصبح من قوانين الإيمان كأنما هو ركن الإسلام
السادس، وتلك كارثة ما لزم أن نفتح الباب لحدوثها يوماً أبداً...
__________________________________________
،
قال السيوطي(1): اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم من
المعارضة وهي إما حسية وإما عقلية.
وزيادة في الايضاح، فالاقتران بالتحدي، يستشرط العلم بأي معجزة
قرآنية منذ-نزول القرآن-لأن الإعلان من ضروريات التحدي. أما سلامة الاعجاز من
المعارضة، فيستشرط الوضوح والجلو، وينفي الاعجاز عن أي كلام مجازي يقبل التأويل
بأكثر من وجه، لأن المعارضة تتأتى من الإبهام والغموض.
أما أن يكون الإعجاز علمياً فيستوجب-أيضاً-الإتيان بمعرفة جديدة
غير معلومة من قبل-في آوان البعثة-، وأن تتفق هذه المعرفة والعلم التجريبي الحديث،
لا مع مجرد علوم تنظيرية تقتصر على الملاحظات، لأن العلوم التنظيرية متغيرة أما
التجريبية فثابته بثبات محيطات التجريب. أخيراً، لا يمكن تحليل معان آي القرآن
مطلقاً إلا من خلال لغة العرب الأوائل، لأنه نزل بلغتهم، لا لغة العرب المعاصرين.
من أمثلة الاعجاز الذي ينطبق وتعريف السيوطي،
فصاحة القرآن، فهي أمر خارق، ولم يقف القرآن عند حد فصاحته، بل شدد في مواضع كثيرة
على ان الفصاحة دليله انه من عند الله، بل وتحدى الناس جميعا قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ
أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً-الاسراء 88-وكذلك تجد تلك المعجزة سليمة من كل معارضة، وسلامتها كانت لأمرين، أولهما الجلو، فلا مجاز ولا تأويل، وثانيهما أن أحداً من العرب لم
يأت بمثله، فهو معجز-أنه أعجز القوم-وفصاحته معجزة.
كيث مور keith moore، عالم الأجنة الكندي وكتابه the
developing human الذي
يعتبره الإعجازيين برهانهم على معجزة مراحل نمو الجنين، معجزة العيار الثقيل، التي أكدها عالم ليس على دين الإسلام، فبين صفحات الطبعة الثالثة
تجد المقارنات المتشابكة بين كلام القرآن ونتائج العلم الحديث بخصوص الأجنة.
لكن
نقطة شائكة وخطيرة يتم تجاهلها دوماً عند تناول موضوع الكتاب، إن الطبعة الثالثة من
الكتاب لم تصدر عن مور وحده بل ساعده فيها عددا من مشايخ الإعجاز على رأسهم الشيخ عبد المجيد الزنداني اليمني أحد الأذرع الأساسية في قوام هيئة الإعجاز العلمي!!!
وفي الفيديو التالي، يوضح لنا كيث مور أن مشايخ الإعجاز هم من ترجموا له كلام القرآن:
الكتاب لا يحمل قصور علمي، فمثله مثل أي كتاب في علم الأجنة، أما الجانب
الإسلامي منه فهو على عهدة المشايخ الأجلاء، يلصقون معانٍ علمية بكلمات بسيطة لا
علاقة لها بالعلم، يقولون أن النطفة حيواناً منويا وأن الأمشاج زيجوتاً وأن العلقة
هي الشئ المعلق، فالقضية مازالت متمثلة في ليهم أعناق الجمل حتى تتوافق ومثل ذلك الكتاب ذو الحلة العلمية.
وفي موضع آخر يوضح لنا كيث مور أنه عمل ذلك الكتاب رغبةً منه في مساعدة المسلمين على فهم كتابهم، فالقرآن حقا تكلم عن الأجنة ببساطة وسطحية، لكن فهماً عميقاً لعلم الأجنة سيساعد المسلم على إدراك عظمة خالقه، ولا علاقة للأمر بالإعجاز من ناحية كيث مور، فهو ليس بحجة لأي من المتنازعين حول الإعجاز العلمي(2).
_______________________________________________________
(1)العلامة الجليل-حباه الله-جلال الدين السيوطي في كتابه الاتقان في علوم القرآن (ج2، ص116)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اخبرني عن رأيك...