الخميس، 11 يونيو 2015

مأساة متوسطة


لقد قضيت عمرك منذ بداياته وحتى المآل في عالم الوهم. العالم الذي صُنع خصيصا ليحاصرك انت وكل ابناء الطبقة المتوسطة وليحرسكم كيلا تنجرفوا إلى بركة الوحل التي يسبح فيها بقية المصريين. البركة التي يُعكر ماؤها طين العجز والخيبة الذي تكدس لضيق في الصلاحيات المُكتسبة للمواطن العاديّ في هذا البلد، فالامتيازات النيابية والقضائية والأمنية محصورة لذوي النفوذ ومعارف ذوي النفوذ كما هو معلوم بالضرورة. ثم يأتي الفقر ليؤمن عجز الجماهير بالاحتياج الدائم للقوت، فيصير الضنك مستساغا لدى الكل، فرائحة الكلس مقبولة في الديار مادام القوت يُطهى على النار. أما عيون الكادحين التي كانت بالاصل مُسلطة على الرغد الذي تتغنج فيه قحاب النخبة، فيتم تشويشها وترويغها بانسداد منافذ المعرفة الحرة، وباقتصار التَعلُم على مقررات العام الدراسي المفروضة من قبل الحكومة وخطب الجمعة التي لا تفتأ تحكي عن الاستسلام لقضاء الرب وقدرة أو بعبارة اخرى الخنوع والانصياع للرؤوس.والنتيجة كثبان من تراب الوخامة الاجتماعية تتراكم في الشوارع، وروائح الوساخة الخلقية تفوح من العماير، وزبالة التدين تترع الحواري.


تُحاصر الطبقة المتوسطة ابنائها باغشية الوهم لئلا يسرحوا في الشوارع، لئلا يلجوا العماير، لئلا يعاينوا الحواري. لظن منها انها في منأى عن الدنس، وهيهات، ولأنها في الواقع طبقة هشة متوترة متزعزعه، كالجنين المهين يحتاجان إلى رحم يُغلف بجدران متينة ويرعى بمخاطيات لزجة وبالعزل يحمي الداخلي من شرور الخارجي. يُباعد العزل بين المعزول ومحيطاته الواقعية، التي تُنذر بالسعير الكامن في الانزلاق لوديان الفقر والحرمان، هذا الانزلاق الذي هو خطر كل يوم، يفرض على متوسطي الدخل اقتفاء مسالك محدده حذرا وحيطة. هُنا تلجأ الطبيعة السيكولوجية للانسان إلى التلفيق والتحايل، إلى طمس الحقيقة المُزعجة  بأوهام وقّاده، تُسكن الموهوم بسبات وتهدهده كطفل ينام في مهد من الخواء.

لفقاعة الوهم جدران رقيقة كفقاعة الصابون، لكن رقتها لا تنفي فعاليتها في تشتيت الادراك، وفي تفكيك اقفال الحذر أمام تبريرات لامنطقية واهيه تجعل من غير المعقول سائد ومن غير الاخلاقي ضرورة اجتماعيه ومن غير الانساني قدرا إلهيًا. ترتكز عملية صناعة الوهم على عمليتين جدليتين، عملية إلهاء الذهن "المُتلقي" وعملية تشويش المعلومات "المُتلقاه". يتمثل الإلهاء في تحويل الانتباه عن المشاكل الهامّة والتغييرات الجارية، من خلال تعريض الجمهور المُتلقي لوابل متواصل من الإلهاءات، كمباريات كرة القدم وسلسال الانتاج التليفيزيوني التافه والمقالات الصحفية المجوفة. تقوم الإلهاءات بتسليط الضوء على مجالات مغايرة للواقع الفعلي الذي يعيشه الجمهور، فتشغله مثلا بثقافات اجنبيه عن بلده وتلوح له دائما بانتاجات ادبية خياله. فينسحق الذهن الجمعي للجمهور بطاحونة الإلهاء، لتبدأ عملية تشويش الصورة التي يتلقاها عن الواقع. والمقصود بالتشويش: هو التدليس، هو اخفاء الارقام والنسب الواقعيه عن المُتلقي الموهوم، هو فرض الاكاذيب حول كل مأساة تدب انيابها في نسيج المجتمع، هو الترويج لافكار ممالئة للموهومين. ومثلما ترسم الشمس ظلالا واضحة على حساب الصخور الراسخة، تُزهي صناعة الوهم البراقة ألوان الخيال على حساب الحقيقة.

إنتهي الامر بعقل جمعي-للطبقة المتوسطة في مصر-لا يرى سوى ذاته. يظن الفرد منهم أنه وأمثاله متفردون هاهنا ولا غير لهم. يحومون في أوهام شريدة بعيدة عن واقعهم المصري الموحش. فالواحد منهم موهوم بأن المعبد يقوم على رسغيه، يقوم كي يُعبد هو، يقوم كي يكفُر هو. فهو الاعمده الهائلة، وهو السقف المبري من الطوب الأحمر يُزينه الرخام البهي. وهو الرمل الابيض الناعم يمس اقدام الفاتنات، وهو العراء الذي يكشف عن انحناءات اجسادهن. وهو حرير العنكبوت في الاركان. وهو الفناء من قبل الوجود ومن بعده. ليس تجلالا بذاته واستهوان بكل ما هو غير بل غفوة عن الواقع ونسيان للحقيقة.

لذلك تنبت أشواك البؤس في عالمهم بسرعة بعدما دُس البهتان في قلب الحقيقة بايديهم. فنيران المأساة تأكل في نعيمهم  كما تأكل النار في الحشائش الجافة. لأن على اعينهم غشاوة، يصيبهم الواقع من آن لآن بصدمات قاسية، تخل منهم الاتزان بالاختلال وتزيح عنهم الفرح بالاغتمام. فثورة في سماوات الرأي تُحلق، قُذفت بحصوة المكر، فانهالت على اصحابها حسرات. وواقع يفرضه عليهم جيشا أو إملاق، يُسرفون من بعده في الفزع. وعالم تواصلي بعدئذ لازال يُغذي الوهم، يتشبثون به كيلا يضيع الواحد منهم في بطن حوت الحقيقة القاسية على من غفلها.



"مأساة متوسطة" قد تتحول فيما بعد إلى شئ أكبر مما هي عليه الآن،
أو قد تبقى كما هي مقالة رأي بلا قراء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخبرني عن رأيك...