الاثنين، 23 مايو 2016

ربيع الصحراء



  كل البشر يتلذذون بتلك الحرارة في قلوبهم حين يستمعون إلى صوت، إلى رنين احبال صوتيه في صندوق الحنجرة. حين يستمعون إلى تتالي طرقات على لوح خشبي، او موجات الصوت تندفع من مكبر متصل بثمة جيتار، إلى ضوضاء متسقه تخرج عن حركة ميكانيكيه تدور في مكان ما. كلنا نشده وننتبه، ثم نأنس ونأمن...


في معسكرات الصاعقه، حيث قضيت ما لا بأس به من خدمتي، اتوا مرة بفرقة تعزف الموسيقى العسكرية. اللحن العسكري جاف وحاد، لكنه لحن والادوات التي سيستخدمها المزيكاتيه العسكريون (الذين يرتدون حلات عسكرية كذلك، ويزين تراب الوطن احذيتهم ايضا كباقي رجال الجيش) ادوات موسيقيه، سكسافون وطبله ومزمار وطبول صغيره وطبله وحيده ضخمه يمتد دبيبها عدة كيلو مترات في الصحراء الشاسعه. استيقظت يومئذ على هطول "كباية" الشاي إلى ارض الدوشمه (العنبر تحت الارض يُسمى دوشمه)، لان كل شئ كان قد بدأ في الاهتزاز. فحفل تخريج احدى الدفعات قد بدأ للتو. والخطوة العسكرية لألف او ما يزيد تستطيع ان تهز ارجاء المنطقة بالكامل. وخرج فجأة، من غير انذار بخروجه، صوت فض بكارة الصمت الصحراوي الرتيب. صوت خرق آذاننا كصور يوم البعث. ففغرت افواهنا وانتبهنا، ومرت في عروقنا نشوة خاصة جدا. بحثنا وتفرسنا عن مصدر الصوت الرائع القوي. تلفتنا يمينا ويسارا، ثم إلى الاعلى! ان الصوت قد جاء من الاعلى. خرجنا متسربين. ولما تلقينا أول شعاع شمس ابان صعودنا درجات السلم الذي يقود من الدوشمه إلى مستوى الارض، كان "البكباشي" قد تابع النفخ في آلته الضخمه. فانطلق لهيب الصوت مثل كورال كنيسة في عيد الميلاد، ولقد احرق الاتربه والرمال التي تكدست حول اعناقنا. رأينا في الخارج غبارا واتربه، نتجت عن دبيب خطوات المشاركين في العرض. ولاحظنا اعلام الشرطة العسكرية في المحيط. والاهم، اني لاحظت ولا ادري ان كان غيري قد لاحظ، ان كل الجنود المختبئين في كل الدشم، قد خرجو في نفس التسلسل وبنفس التوقيت. مثل وحوش بريه مختبئه في جحورها، خرجت لاستقبال الربيع، في وداعة لا تليق بوحوش، لكنهم مطبوعين على استحسان الجمال بفطرتهم. قد يبدو هذا الوصف كليشيهي لحد بعيد، لكن الموسيقى يومها كانت كما ربيع الصحراء. الصحراء الشاسعه المحفوفه بالافق والمنكسرة اسفل شمس لا تنكسر، والمضروبه بصقيع الليل، التي لا ربيع فيها، فكلها فصل واحد، حار يحرق، وبارد يقشف الجلود، وماؤها لا يُشرب. لكن الموسيقى التي عُزفت يومئذ، فجرت ينبوعا من المسرات في تلك الصحراء البرية القاسيه. لقد شرحت لي تلك الموسيقى الكثير عن الدور الذي كان يقوم به رجل يرتدي عمامه كبيره بعض الشئ يجلس متربع الساقين امام حيه، يحرك اصابعه وينفخ بكل عزمه ليصدر لها تلك النبرات. لقد كانت الحيات والصقور من فوقها في السماء، تستحلي صوت الربيع في مزمار ذلك الرجل. ونحن كذلك يومئذ، لما انتبهنا وصعدنا إلى الشمس، فلم نجدها شمس بل وجدناها شيئا ناعما! شيئا يرقص لتلك النغمات التي طافت في فضاء هذا الصباح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخبرني عن رأيك...